هل يطيب العيش في مدننا؟
في تنقلها من مقر سكناها إلى عملها وسط العاصمة، تواجه أماني تحديا يوميا في بلوغ وجهتها بأقل تعب ممكن، رغم أنّها تستخدم سيارتها الخاصة. وإن تجاوزت عقبة الاكتظاظ المروري فإنّها تصطدم بمعضلة ركن السيارة إذ تضلّ تبحث عن مكان لا تجده إلاّ بعد جهد كبير.
إشكاليات التنقل ليست المعضلة الوحيدة لمتساكني تونس الكبرى، فتوفّر الحدائق والفضاءات العامة للترفيه في المحيط القريب لمكان سكن العائلات هو من النقائص العديدة التي يواجهها المتساكنون في أغلب الأحياء حيث تتراكم الكتل الإسمنتية على حساب الجمالية والمناطق الخضراء في مدن تختنق.
مظاهر الفوضى تطغى على المشهد العام في أكثر من حيّ وتحاصر المتساكنين الذين تتفاقم معاناتهم بالتلوّث وانتشار الفضلات واهتراء البنية التحتية مما يقلص من فرصهم في الحصول على مدن يطيب فيها العيش.
فما الذي يجعل طيب العيش في مددنا حلم صعب المنال، أَلنقص في التخطيط أم لغياب القوانين؟ وهل بالإمكان تحسين هذا الواقع وبأيّ آليات؟
أسئلة سنحاول الإجابة عنها مع المهندسة المعمارية ومخططة المدن (urbaniste) إيمان زعفراني زهيوة.
تواجه منطقة تونس الكبرى إشكالية توسّع المدن بشكل غير متوازن، وتصطدم الجهات المسؤولة عن التخطيط بعدّة إشكاليات مثل البناء العشوائي، وتآكل المساحات الخضراء، وضعف خدمات النقل، مما يشتت جهودها في تحقيق بيئة حضرية يطيب فيها العيش وفقا للمعايير المتعارف عليها.

الاختناق المروري يؤرق متساكني العاصمة تونس وضواخيها
نمو أفقي على حساب الأراضي الفلاحية والطبيعة
تضمّ تونس الكبرى نحو ربع سكان البلاد، وتمتدّ على مساحة 2700 كلم² مقسّمة على 38 بلدية. ورغم هذا الاتساع، لا تتجاوز الكثافة 1350 ساكن/كلم².
تُفسّر إيمان زعفراني زهيوة ذلك بطغيان البناء الأفقي خاصة في الضواحي، مما يساهم في استنزاف مساحات شاسعة من الأراضي، على حساب الأراضي الفلاحية والمناطق الطبيعية، ويهدد ذلك بالتالي "رئات" المدن التي تضمن توازنها البيئي.
جودة الحياة تبدأ من التخطيط
تقول زهيوة إنّ جودة الحياة الحضرية تعني قدرة المواطن على التنقّل بأمان ويُسر إلى مقر عمله، وتوفّر وسائل نقل ملائمة، ووجود فضاءات عامة مجانية كالمنتزهات، ومدن خضراء يجد فيها الإنسان متنفساً. وتشرح بأنّ تحقيق هذه الشروط تكون نتيجة مباشرة لتخطيط حضري فعّال يُبنى على مدى زمني طويل قد يصل إلى 30 سنة أحياناً.
لكنّ التخطيط العمراني في تونس يشكو من عدّة عوائق تحول دون تنفيذه بدقة نتيجة لمشاكل هيكلية وأخرى لوجستية فضلا عن نقص الصرامة (وغيابها أحيانا) في تطبيق القوانين.
التخطيط موجود ولكن..
وتشير زهيوة في هذا السياق إلى أنّ أدوات التخطيط ليست غائبة، بل تتوفّر أمثلة تهيئة عمرانية، ومؤسسات مثل وكالة التعمير لتونس الكبرى، وإطارات كفؤة، لكنّ التطبيق يصطدم غالباً بالبناء العشوائي وتجاوزات الأفراد الذين يعمدون إلى إضافة مساحات إلى منازلهم دون تراخيص بشكل توافقي بين المتساكنين في ما بينهم، ما يخلق كتلًا خرسانية متلاصقة تفتقر لأي انسجام عمراني أو بيئي وتخلّ بأمثلة التهيئة.
يصطدم تطبيق أمثلة التهيئة العمرانية غالباً بالبناء العشوائي وتجاوزات الأفراد
وتبرز هنا مشكلة نقص الإمكانيات في الرقابة، لا سيما على مستوى البلديات ينضاف إليها غياب التنسيق بين الوزارات المعنية كالفلاحة والتجهيز والبيئة والنقل.
إضافة إلى ذلك تواجه تونس الكبرى انتشارا كبيرا للأحياء الفوضوية التي لا تخضع إلى أيّ تخطيط عمراني ولا تراعي أيّ اعتبارات بيئية.
ولمعالجة إشكالية الأحياء التي نشأت خارج أمثلة التهيئة العمرانية تمّ إحداث وكالة التهذيب والتجديد العمراني والتي تعنى، إلى جانب مهام أخرى، بتهذيب الأحياء العشوائية وتوفير المرافق الأساسية لها، مثل الماء والكهرباء والطرقات وغيرها من الخدمات في محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه.

حي سكني في تونس الكبرى
ماذا عن المخطط المديري لتونس الكبرى؟
ومن الإشكاليات الأخرى التي أشارت إليها زهيوة نجد التفاوت بين نسق البناء السريع ونسق المصادقة على أمثلة التهيئة.
وفي هذا الإطار أشارت إلى المخطط المديري لتونس الكبرى الذي تمّ إعداده في تسعينات القرن الماضي غير أنّ المصادقة عليه لم تحصل إلا سنة 2010.
هذا التفاوت الزمني بين وضع المخطط والمصادقة عليه جعل من تطبيقه على أرض الواقع غير ممكن حيث غزت البناءات المناطق التي خُصّصت في الأصل للفضاءات الخضراء والسكن الإيكولوجي، مما يطرح عدّة تساءلات في هذا الشأن.
المخطط المديري لتونس الكبرى تمّ إعداده في تسعينات القرن الماضي ولم تتم المصادقة عليه إلا سنة 2010 بعد أن غزت البناءات المناطق التي خُصّصت في الأصل للفضاءات الخضراء !
مشاق التنقّل بين المدينة وضواحيها
وبالإضافة إلى ما أثير من إشكاليات، فإنّ التنقّل يُعدّ من أكبر التحديات التي تواجهها منطقة تونس الكبرى، إذ يصعب على المواطن التنقّل بسلاسة بين وسائل النقل المختلفة إن توفّرت، مما يطيل زمن التنقّل ويزيد من الإرهاق اليومي.
وهنا تشير زهيوة إلى ضرورة تمكين وكالة التعمير لتونس الكبرى من نفوذ أكبر بحكم امتلاكها نظرة شمولية تجمع النقل والبيئة وهيكلة المجال الحضري.
الطبيعة في المدينة..من رفاه إلى ضرورة
كما سلّطت زهيوة الضوء على حضور الطبيعة داخل النسيج الحضري في مدن تونس الكبرى، والذي مثّل موضوع دراسة أعدتها ونشرتها في كتاب يحمل عنوان (Désir de nature dans le grand Tunis : pour une végétalisation de la ville de Tunis).

إيمان زعفراني زهيوة مهندسة معمارية ومؤلفة كتاب Désir de nature dans le grand Tunis : pour une végétalisation de la ville de Tunis
في هذا المؤلّف توضح أنّ نصيب الفرد من المناطق الخضراء لا يتجاوز 3م² ، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بـ10 م² على الأقل.
ويزداد الطلب على هذه الفضاءات خاصة من قبل الفئات التي تفتقر إلى الإمكانيات المادية لارتياد الأماكن الترفيهية الخاصة.
وفي ظلّ شح الأراضي، نتيجة التوسّع العمراني، تقترح زهيوة استراتيجية "تخضير المدن" من خلال استغلال أي مساحة ممكنة لزرع الأشجار، وربطها بمسارات خضراء لتشكيل ما عبّرت عنه بـ "خيط أخضر" عبر المدينة.

تشكو المناطق الخضراء في تونس الكبرى من الإهمال وتتعرّض للانتهاك
ومن بين الحلول الأخرى التي تدعو إلى تنفيذها تفعيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتبنّي عقود رعاية (Mécénat) تسمح للشركات بالمساهمة في صيانة الحدائق والمساحات الخضراء في ظلّ نقص الموارد المادية والبشرية، فضلاً عن تشريك المواطنين وجمعيات الأحياء البيئية، خاصة مع توفّر التشريعات الضرورية لذلك.
يظلّ التخطيط الحضري في تونس في حاجة إلى إرادة قوية، وتنسيق فعّال، وتفعيل صارم للقوانين لتوفير جودة العيش التي تبدأ من مدن متوازنة، ومنظّمة وخضراء، وآمنة، يطيب فيها العيش.
شكري اللّجمي