languageFrançais

'الطريق الثالثة' لمحمود المسعدي.. بنظرة المؤرخ لطفي عيسى

"تخلى عن الطريق السهلة وانخرط في الطريق الأصعب.. هو من أدخل البعد الاجتماعي والاقتصادي في التجربة السياسية التونسية.. جلس على كرسيّ السياسة وكرسي الفعل الاجتماعي والاقتصادي.. رجل ينتسب إلى الفضاء الاجتماعي والنقابي.. أديب كان يمكنه أن يحتفظ بموقعه ذاك أويتجه إلى النقد الأدبي.. لكنّه لم يختر ذلك الطريق، بل اختار الطريق الثالثة..''.

بهذا وأكثر يتحدّث المؤرخ لطفي عيسى عن محمود المسعدي، خلال استضافته في برنامج ''واحد من الناس''، ويصف أدبه فيقول ''يكتب من اللحمة الحية، لكن بلغة منتقاة'' وأما تجربته السياسية فيختزلها في تصريح المسعدي ذات مرة ''اختياري مع أولاد الحفيانة''.

''خلصتُ إلى أنّ المسعدي ورغم شهرته ومعرفة أغلب التونسيين به وبأدبه، فإن العلاقة به كانت فاترة جدا، وحضوره عندهم لا يوازي حضور نجيب محفوظ مؤسس الأدب الاجتماعي في مصر مثالا، وذلك لأسباب موضوعية. انتهج المسعدي أدبا فكريا متأثرا بالأدب الفرنسي والفكر الوجودي، وذلك لم يكن اختيارا، فالمثقفون التونسيون من أبناء جيله هم في الأغلب الأعمّ مثقفون مزدوجو اللغة''، ويواصل المؤرخ حديثه ''كان حديث الناس في زمن ما، حين كان في السلطة. لكن تجربته الأدبية كانت قصيرة، بدأت مع الحرب العالمية الثانية وانتهت بعدها بسنتين...لذا لم يكن المسعدي بتاتا أديبا فحسب، أعتبره صاحب حفنة نصوص روائية فكرية''. 

إبن مدينة ''تازركة'' الجميلة، حفظ القرآن ثم درس في "قربة" ومنها إلى المدرسة الصادقية في العاصمة أين نال شهادة الباكالوريا سنة 1933، كان يمكنه أن يكتفي بها لكنه اختار الذهاب لاستكمال دراسته في فرنسا. في 1934 كان قد انخرط في الحزب الدستوري وفي الحياة السياسية، ليغادرها في 1986 ، ''وهو في ذلك ملك مسارا سياسيا شبيها بمسار الحبيب بورقيبة''، وكان نقابيا أيضا، إذ انخرط في نقابة المعلمين، ومنها قياديا في الاتحاد العام التونسي للشغل.

الأديب الوزير الذي اختار ''أولاد الحفيانة''

بعد استقلال تونس، تقلّد المناصب السياسية وأولها وزارة التربية القومية، وهنا فرض مجانية التعليم في البلاد رغم الاختلاف حوله. 

وعن هذا يقول لطفي عيسى ''اختياري مع أولاد الحفيانة، هكذا قال المسعدي حينها، ولهذا فرض مجانية التعليم في البلاد.. نجح في اقناع بورقيبة بنجاعة هذا القرار، كما طبّق مشروع إصلاح التعليم الذي كان قدمه الاتحاد العام التونسي للشغل منذ سنة 1948". 

وأوضح عيسى السياق الذي تمّ فيه اتخاذ هذا القرار، ''الخلاف كان على أشده في تلك الفترة حول الازدواجية اللغوية للتعليم، وحول تعميمه من عدمه، شق رأى في ازدواجية التعليم حدا من تفكير المتعلم ومن قدرته على التعبير على دلالاته، وشق دافع على أن بوابة الثقافة الكونية تمرّ عبر بوابة ثانية ولغة حية.. وحينها كانت اللغة الفرنسية''، ويواصل ''وجب التأكيد على أن أغلب الأعيان في تلك الفترة، ''تونس الغنية وتونس القديمة'' كانت في الأغلب الأعم مع تطوير تعليم زيتوني وغير مساندة لتعميم التعليم. كما أن الخلاف كان على أشده بين الانتماء العربي الإسلامي، أو بناء دولة وطنية وما عُرف بـ''الأمة التونسية''..'' ويخلص إلى أن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة حسم الصراع بعد استماع طويل إلى الشقين، وذهب نحو تعليم عصري ومُعمم ومجاني.

صديق مقرّب لفرحات حشاد.. 

كان المسعدي إضافة إلى كلّ ذلك صديقا مقربا لفرحات حشاد وهو من قرّب بين حشاد وبورقيبة، كما كان يقوم بتعديل رسائل فرحات حشاد التي كان يُرسلها إلى الولايات المتحدة. ويعلّق المؤرخ على هذه النقطة فيقول ''وهنا تكمن أهمية تمكّن المسعدي من اللغات الثلاث، بالنسبة إليه، الاستعمار الفرنسي استعمار قديم، في حين أنّ الأمريكيين يحملون مبادئ كونية.. إنّ النقابات التونسية في روحها أمريكية لا فرنسية.. ومشروع الدولة الوطنية لم يكن متذيّلا للفرنسيين كما يدعون، ولهذا اغتالت فرنسا فرحات حشاد...''.

أدب خاص بزاد عربي إسلامي..وتكوين غربي

"أدب المسعدي لا يشبه أدب الشرق، هو أدب تونسي قادم من الثنائية الثقافية، ولست هنا أعني ازدواجية لغوية.. المسعدي ملك زادا عربيا إسلاميا، لكنّه ملك مثله من التكوين الغربي، تكوين خاص''، بهذا يصف لطفي عيسى أدب المسعدي، وعن انتقاد طه حسين لأدبه ووصفه له ''بالأدب العسير''، يفسّر ضيفنا ''طه حسين عاش سياقات أخرى وواقعا آخر، ولا لوم عليه حين اعتبر أن لغته منحوتة من لغة "صلداء قديمة لا يفهمها إلا القلة"، وتلك من المآخذ التي يُمكن أن تُقال حول أدب المسعدي'' ويواصل ''أدبه بالنسبة إلى محاولات أدبية قصيرة الزمن.. وتجربته النقابية والسياسية هي حقيقته''. 

هل أقصى وظلم منافسيه؟

وعن اتهام المسعدي بتعمده إقصاء أدباء ومفكرين من الجامعات التونسية، يفسّر لطفي عيسى بالقول ''في خلافه مع الكثيرين، قالوا إنه ظلمهم أو تجاوز حدوده في التعامل معهم، ولم يعطهم حقوقهم في الجامعات التونسية: عبد الجليل التميمي، عمر بن سالم، المنجي الكعبي،  ألبار مامي، هشام جعيط..أعتقد أن المسعدي كان يعتقد أن بقية الادباء ليسوا في مستوى ما أريد لهم أن يكونوا. وثمة من يتهمه بأنه أدرج كتاباته في برنامج الباكالوريا حتى تُباع..ولو لم يفعل ذلك لما قرأ له التونسيون...''.

في الخلاصة، يعتبر المؤرخ لطفي عيسى أنّ محمود المسعدي كان مجاهرا باختياراته الاجتماعية وأنّ النفس الكوني والوجودي كان شديد الحضور في أدبه، وأنّ الطريق الثالثة التي سلكها قائمة على أنّ ''الاجتماعي والاقتصادي هو أصل الفعل السياسي''، ويقول في الختام ''ربما ذاك هو مقدار الجنون الذي لا بد منه من أجل مقدار من الحرية''.

أمل الهذيلي