languageFrançais

البحر يواصل لفظ جثثهم.. كيف تحوّلت 'حرقة' إلى فاجعة وطن؟

75 جثة تم سحبها من مياه وسواحل جزيرة قرقنة، 75 وجها وذاتا وكيانا وقصة.. 75 حياة إنتهت في ليلة بدت هادئة لا تختلف عن سابقاتها، 75 جسدا أكل آلاف الوجبات من أيادٍ رعته وأحبته قبل أن تأكله الأسماك، 75 روحا قصدت الحرية وجنة الأرض الموعودة، فكان مصيرها الصعود.. 75 جثة والرقم ذاهب إلى الإرتفاع لا محالة، فإن صدقت شهادات الناجين، فإن حوالي 40 جثة أخرى ما تزال تسبح في أعماق مياه الجزيرة الجميلة التي طالما ارتبط إسمها بالسكينة والسعادة، فصار لصيقا بالموت والفاجعة.. 


يوم الأحد 3 جوان 2018 كان يوما رمضانيا عاديا، حتى الخبر الذي ورد من قرقنة صباحا كان وقعه في البداية غير جنائزي، "أفاد مراسل موزاييك بغرق مركب صيد يحمل مهاجرين غير شرعيين تونسيين وأجانب بسواحل قرقنة بسبب العوامل الجوية...وتحولت وحدات عائمة من حرس البحر والبحرية الوطنية حيث تم إنقاذ عدد من الحارقين وانتشال حوالي 10 جثث تم نقلها إلى قسم الطب الشرعي بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس فيما لا يزال عدد المفقودين كبيرا وعمليات البحث عن مفقودين مازالت  جارية". ورغم الحادث الذي ينذر بأنه يحمل أخبارا صاعقة معه، لم يكن له وقع كبير في البداية، بل ظل إلى بقية يوم الأحد ورغم التضاعف السريع لعدد الجثث المنتشلة، "خبرا عاديا".


 

 

صبيحة يوم الاثنين، استيقظنا على خبر بلوغ عدد الضحايا 48 جثة منتشلة، وبدت معالم المُصاب الجلل تتضح، شباب من قابس، بن عروس، مدنين، تطاوين، سليانة، صفاقس، تونس، جندوبة وغيرها... وأعمار مختلفة، وجنسيات غير تونسية كان مآل جثثها الدفن بلا هوية.  وبدا الرقم مفزعا إذ تجاوز سريعا الحصيلة الكارثية لحادثة اصطدام وحدة بحرية تابعة لجيش البحر بمركب معد للهجرة غير النظامية يوم 8 أكتوبر 2017 ، حينها توفي غرقا 46 من راكبيه وتم انتشال جثثهم، وإنقاذ 38 آخرين. 


ثم سرى الخبر إلى مسؤولي الدولة، فكان الحادث ومآله محور الاجتماع الأمني الدوري الذي انعقد صباح اليوم الاثنين 4 جوان 2018 بدار الضيافة بإشراف رئيس الحكومة وبحضور وزيري الداخلية والدفاع وعدد من القيادات الأمنية والعسكرية. في الأثناء، توافدت عائلات الضحايا من مختلف الجهات على مستشفى الحبيب بورقيبة في صفاقس، عشرات من العوائل ومئات الأمهات بوجوه شاحبة وبلا مأوى ولا إفطار، وصار المشهد تجمّعا مأتميا أمام المستشفى في انتظار الخبر المُحيي أو المميت.. ومع مرور الساعات والأيام، تبيّن أن أغلب الأخبار الواردة تحمل معها جثثا جديدة.

 


مساء اليوم نفسه، تنقل وزير الداخلية المُقال إلى صفاقس في زيارة غير معلنة، أين شدد من هناك على أن القوات الأمنية بمختلف أسلاكها ستتمركز في القريب العاجل بجزيرة قرقنة "من أجل سد الفراغ الأمني بها والتصدي للجريمة المنظمة مع العمل في كنف التناغم والتكامل مع أهالي المنطقة"، ولم يسعفه الوقت كثيرا ليحقق أوامره. وبالتوازي مع ذلك، تحولت مواقع التواصل الإجتماعي إلى محاكم ومنصات تحليل ونقاش، بين متعاطف ومتأثر ومندد ومستنكر، وبين محمل للدولة المسؤولية الكاملة لتواصل هروب الشباب إلى الهجرة غير النظامية رغم كل مخاطرها، وآخرين حملوا العائلات و"الحراقة" أنفسهم نتائج ما حدث. 
في حين أكّد الحقوقي والناشط في المجتمع المدني عبد الرحمان الهذيلي أن حادثة غرق المركب بسواحل قرقنة تمثل أكبر كارثة في تاريخ الهجرة غير النظامية أو ما يعرف بالحرقة في تاريخ تونس، كاشفا في هذا الصدد أن عدد الضحايا في مركب قرقنة يفوق الـ 110 ضحية "ولم نعرف هذا العدد في تاريخ الهجرة" على حد قوله.


لم يقف أثر النائبة التي ألمت بالبلاد عند الصعيد الوطني، إذ علّق سفير الاتحاد الأوروبي باتريس بيرغاميني في تدوينة نشرها على صفحته الشخصية بفايسبوك على حادثة غرق مركب قرقنة الذي أودى بحياة العشرات، معتبرا أنها مأساة جديدة تضرب جزر قرقنة وتونس والمتوسط.


يوم الثلاثاء، تواصل إرتفاع عدد الجثث المنتشلة، وتنقل رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى الجزيرة للوقوف على الوضع الأمني والاخلالات التي تسبّبت في فاجعة غرق مركب الهجرة، وهناك جمعه حوار بالقيادات الأمنية وأبدى إمتعاضه من تكرر الحادثة رغم توصياته بعد غرق مركب في أكتوبر، وذكر بقرار فتح تحقيق في إطار تفقدية وزارة الداخلية، بخصوص ما يروّج عن 'تواطؤ' أمني في عمليات تنظيم رحلات الهجرة السرية. وقد إنتشرت عبر صفحات الفايسبوك شهادات عديدة لمن شاركوا في رحلة الموت، وأكدوا أن ''ريّس المركب'' تعمد إغراقهم، في حين أكد آخرون وجود إتفاق بين وبين الأمن وذهب آخرون إلى إتهام أعوان من الأمن بتلقي مبالغ مالية هامة عن كل مهاجر. 


إثر ذلك، تولى وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بصفاقس، أمس الأربعاء 6 جوان 2018، "فتح بحث تحقيقي حول ما راج من وجود تواطئ أمني في عملية الإبحار خلسة التي جدت في الليلة الفاصلة بين 2 و3 جوان الجاري والناجم عنها الموت طبقا لأحكام الفصل 31 من مجلة الإجراءات الجزائية"، خبر بدا لأول مرة أنه تطور جدي في القضية وتداوله المتابعون على أنه تحرك مسؤول من السلطات القضائية، إلى حين الوقوف عند معنى الفصل 31 من مجلة الإجراءات الجزائية.  إذ ينص هذا الفصل على أنه ''لوكيـل الجمهوريـة إزاء شكايـة لم تبلغ حد الكفاية من التعليل أو التبريـر أن يطلـب إجراء بحث مؤقتا ضد مجهـول بواسطـة حاكم التحقيق إلى أن توجه تهم أو تصدر عند الاقتضاء طلبات ضد شخص معين''.


بمعنى أن القضاء اختار في هذا الملف آلية الفصل التي لا تسمح للمتضررين بالقيام بأي إجراء، إذ أنه فتح بحث بلا تهمة ولا متهم، ويذهب حقوقيون ومحامون إلى اعتبار هذا الفصل "تكريسا لمنظومة الإفلات من العقاب". ويبدو نظريا على الأقل من خلال ذلك أن اختيار فتح بحث طبقا لأحكام هذا الفصل، كان وسيلة في يد النيابة العمومية لإبقاء الحالة على ما هي عليه.. 


سيكون مريعا أن تتكرر هذه الكارثة مرة أخرى، حتى وإن أقيل عدد غير مسبوق من المسؤولين الأمنيين بمن فيهم وزير الداخلية نفسه. مئات الضحايا والمفقودين في سبع سنوات، وتواصل للخسائر البشرية التي لا تعوّض، أمام عجز حكومي واضح عن إيجاد حلّ أمني أو إقتصادي لهذه الظاهرة التي صارت لا تستثني فئة أو عمرا أو جنسا. 

أمل الهذيلي