languageFrançais

دييغو مارادونا: الإنسان الهشّ.. الوجه الآخر للأسطورة!

كان أكثر من لاعب كرة، كان هشّا ومتمرّدا في الآن، جَمَعَ بين السّحر والضياع، بين الملعب والشارع، بين الطفولة الفقيرة والحضور ''الإلهي'' في أعين جماهير "نابولي" و"بوينس آيرس". أسطورته مستمرة، لأنّها لا تُقاس بعدد الأهداف، بل بعدد القلوب التي حرّكها.. 

اختار برنامج ''واحد من الناس'' هذه المرّة، العودة على خفايا سيرة أحد أكثر اللاعبين إثارة للجدل والإعجاب في تاريخ كرة القدم: ''دييغو أرماندو مارادونا''، عبر حوار مطوّل مع الأستاذ وليد جعفر. لم يقدّم مارادونا كما عهدناه في الصور والملصقات والمباريات، بل كإنسان عادي نشأ في حي قصديري، وكما نحتته الحياة بالمجد والخسارات، بالشهرة والانكسار، وبالنبوغ والتمرد..

الأسطورة التي وُلدت من رحم الهامش

يبدأ وليد جعفر حديثه بالعودة إلى أصل الحكاية، إلى "فيّوريتو"، الحي القصديري الذي وُلد فيه مارادونا في مدينة صناعية تقع جنوب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. يصفه جعفر بأنّه فضاء يعجّ بالقهر، وأنّ الغبار والفقر والعوز شكّل التربة التي نبتت فيها موهبة استثنائية. يقول: "منذ طفولته، لم يكن مارادونا شبيهًا بأقرانه. الكرة كانت جزءًا من جسده. الناس لاحظوا سحرًا غريبًا في لمساته. كان هشًّا، وكان شغوفًا.. وهذه الهشاشة تحديدًا كانت سره الأكبر."

ويرى جعفر أنّ مارادونا لم ينفصل يومًا عن هذا الانتماء الطبقي، بل جعله وقودًا لمسيرته. فكل ما فعله لاحقًا، في "نابولي" أو في المنتخب، كان بوعيٍ طبقيّ وانحيازٍ اجتماعيّ للضعفاء.

نابولي.. الاختيار السياسي لساحر كرة

يعتبر وليد جعفر أنّ انتقال مارادونا إلى نادي نابولي لم يكن قرارًا رياضيًا بحتًا، بل أقرب إلى "بيان سياسي". "مارادونا رفض أندية المال والنفوذ، واختار مدينة جنوبية مهمّشة، تُنعت بالقذارة، وتُحتقر من الشمال الإيطالي الغني. قالها: "أردت أن أكون في صفّ الفقراء".

وحين ارتدى القميص الأزرق، لم يرفع شأن النادي فقط، بل رفع رأس المدينة كلّها. من نادٍ لم يفز بشيء إلى فريق يحصد الدوري والكؤوس ويُرعب الكبار. تحوّل مارادونا في زمن قصير إلى "نصف إله" في أعين النابوليين، وإلى بطل شعبي جاء من أقاصي الجنوب العالمي لينتقم من المركز ويكتب المجد بقدميه.

للاطّلاع على الحوار كاملا على قناة 'موزاييك' على يوتيوب

ومارادونا، في رواية وليد جعفر، لم يكن لاعب كرة فقط، بل فاعلا سياسيا صريحا، يتحدث، يرفض، ويتموقع. يقول جعفر في هذا السياق: "مارادونا وقف ضدّ الإمبريالية، دعم الثورة الكوبية، صافح هوغو شافيز، وصرّح بملء ما فيه: 'قلبي فلسطيني'. لم يكن محايدًا. بل كان في قلب الصراع."

ويضيف أن موقفه الشهير في مونديال 1986 ضد إنجلترا لم يكن رياضيًا فحسب، بل فعل مقاومة بعد جرح المالوين/الفوكلاند

"قدوة.. غير مثالية"

لا يُنكر وليد جعفر أنّ مارادونا كان إنسانًا مفرطًا في النزق والانزلاق. الإدمان، العلاقات المشبوهة، التصريحات النارية، كلها تحضر في تاريخه. لكنه يرى في ذلك جزءًا من جاذبيته الأسطورية: "مارادونا لم يدّعِ الكمال. بالعكس، هو اعترف بأخطائه، تحدث عن صراعه مع المخدرات، وبكى على شاشات التلفاز. الناس أحبوه لأنه يشبههم، لا لأنه متفوّق عليهم."

وفي مقاربة فلسفية للقدوة، يؤكّد جعفر على أنّ مارادونا أعاد تعريف "النموذج": لم يعد ذاك الملاك المعصوم، بل صار "إنسانًا يمكن الاقتداء به في شجاعته، حتى وهو يسقط".

مارادونا في نظر وليد جعفر، تحوّل إلى ما يشبه الديانة الشعبية. في نابولي، أنشأ محبّوه "كنيسة مارادونية"، يزورونها كما يُزار الأولياء. صوره تزيّن الحيطان، وأغانيه تُنشد في الملاعب، واسمه يتردّد كما تُتلى أسماء القديسين. 

"مارادونا تجاوز حدود الكرة. أصبح لغة، رمزًا، تمثيلًا عالميًا للمقهورين. كان كمن يلعب من أجلهم، لا من أجل المجد الفردي."

بين الأسطورة والإنسان

يختم وليد جعفر قراءته المتأنية في حياة مارادونا بتوصيف عميق: "مارادونا لم يكن فقط قديس الفقراء ولا شيطان المخدرات. كان الاثنين معًا. رجل من لحم ودم، يحمل نبوغًا خارقًا وهشاشة قاتلة وشغفا لم يخفت يوما. وهذا ما جعله خالدًا."

في زمن يصنع فيه الإعلام أبطالًا من ورق، ويهدمهم بسهولة، يظل مارادونا، في نظر جعفر، حالة نادرة من الانسجام بين العظمة والعطب، بين العبقرية والخطيئة.

إن قراءة وليد جعفر لحياة مارادونا تقدّم لنا أكثر من سيرة نجم رياضي. إنها تأريخ لرمز شعبي حمل أحلام من لا صوت لهم، وواجه العالم كما هو، بأخطائه وفضائله. مارادونا لم ينتصر فقط في الملعب، بل انتصر في وجدان وذاكرة الإنسانية. عاش كأنه قصيدة قصيرة، مكثفة، لا تنسى.

وكما يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي استشهد به جعفر: "إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصبا لعارها في الفوكلاند. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح إنكلترا المغرورة الحرب مرتين.ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة. مارادونا يعيد الجزيرة إلى الأرجنتين. وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلى أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد."

* أمل الهذيلي

share