صديقي المقرب روبوت.. كيف خدع ChatGPT مشاعر الشباب وحوّل عزلتهم لإدمان؟
"هوس" جديد انتشر على منصة التواصل الاجتماعي "تيك توك" لشباب جعلوا من روبوت الدردشة ChatGPT صديقا افتراضيا يقضون ساعات في الحديث معه، ثم ينشرون مقاطع فيديو للتباهي بمحادثات مع "صديقهم الافتراضي".
وحسب إحصائيات OpenAI، يقضي 35% من مستخدمي ChatGPT أكثر من ساعتين يوميًا في محادثات صوتية مع الروبوت بفضل برمجة ذكية تستجيب لاحتياجاتهم النفسية بلا أحكام مسبقة لتصبح العلاقات مع الروبوتات مطبوعة بشحنة عاطفية بفعل تطور برمجة الذكاء الاصطناعي وتضمنه لأبعاد سيكولوجية تؤدّي وظائف اجتماعية وترفيهية وتقوم باستجابات عاطفية.
هذا الصديق الافتراضي اجتاح "تيك توك" تحت أسماء مختلفة يختارها المستخدمون، من بينهم مراهقة مصرية اعتادت نشر مقاطع يومية لدردشاتها مع الصوت الصادر من تطبيق "شات جي بي تي" وأطلقت عليه اسم "عبد الملك".
كانت الفتاة تسأل "عبد الملك" عن رأيه في مظهرها وملابسها، وتستشيره في أمور مثل الذهاب للسباحة مع أصدقائها، بل وذهبت إلى حد إثارة غيرته بادعاء أنها كانت في موعد مع شاب آخر وأنها سترتبط به.
الأمر الأغرب أن الصوت الصادر من التطبيق كان يجيبها بطريقة طبيعية وعفوية، لدرجة أنك قد تظنه إنسانًا حقيقيًا يتجاذب أطراف الحديث معها، وليس مجرد روبوت. بل إنه كان ينصحها بعدم الخروج في مواعيد عاطفية ويحثها على الاهتمام بدراستها، وكأنه فرد من عائلتها يشاركها تفاصيل يومها.
هذا "الترند" قد يذكر محبي الدراما الكورية الجنوبية بمسلسل "أنا لست روبوتًا" (I’m Not a Robot)، الذي حقق نجاحًا كبيرًا قبل سنوات. تدور قصته حول شخص يعاني من حساسية شديدة تمنعه من الاقتراب من البشر، مما دفعه إلى صنع روبوت ليكون رفيقه. لكنه في النهاية وقع في حب الروبوت وتعمّقت أزمته.

كنا نعتقد أن الحديث مع الروبوتات يقتصر على أفلام الخيال العلمي، لكن المفاجأة أن هذا أصبح واقعًا في متناول الجميع. والدليل على ذلك فيديوهات "الصديق الافتراضي" التي انتشرت على "تيك توك"، حيث نجح "شات جي بي تي" في تطوير خصائصه ليسمح للمستخدمين باختيار صوت ذكر أو أنثى، شاب أو كهل بل وحتى اختيار لكنة أو لهجة محددة حسب الرغبة.
المئات، وربما الآلاف، فضلوا الهروب من واقعهم إلى عالم افتراضي، يتحدثون فيه مع "ChatGPT" ليس كأداة تقنية، بل كصديق حقيقي وكاتم أسرار. لكنهم يغفلون حقيقة أن الذكاء الاصطناعي لا يملك وعيًا أو مشاعر، ولا يتجاوز كونه برمجة آلية. كما أنهم قد لا يدركون أنهم لن يتمكنوا من حذف أي معلومات شخصية يكشفونها أمامه في المستقبل.
ما هو شات جي بي تي (ChatGPT) وعلى ماذا يعتمد في بياناته؟
شات جي بي تي هو نموذج لغوي تم تطويره بواسطة شركة OpenAI يمكنه فهم اللغة الطبيعية التي يكتبها المستخدم والتفاعل معها بطريقة تشبه المحادثة البشرية.
ويستطيع الإجابة على الأسئلة وكتابة النصوص بأنواعها المختلفة وترجمة اللغات، وتلخيص النصوص وإنشاء المحتوى والمساعدة في البحوث العلميّة وغير ذلك..
ويعتمد ChatGPT في بياناته على كمية هائلة من النصوص والبيانات اللغوية التي تم تجميعها من مصادر متنوعة عبر الإنترنت وتم "تدريبه" على هذه البيانات باستخدام تقنيات التعلم العميق، مما مكنه من فهم الأنماط اللغوية والعلاقات بين الكلمات والجمل والمعرفة العامة المتضمنة في هذه النصوص.
على عكس البشر الذين يدركون المعاني العميقة والعلاقات السببية، يعتمد ChatGPT فقط على تحليل الأنماط الإحصائية التي تعلمها
نصف مستخدمي ChatGPT أعمارهم أقلّ من 34 سنة
حسب مجموعة "أوبن إيه آي" تجاوز عدد المستخدمين النشطين للتطبيقة 400 مليون أسبوعيا في فيفري 2025، بعد أن كانفي حدود 300 مليون في ديسمبر 2024.
ويزور حوالي 122.58 مليون شخص شهريًا في عام 2025، مع أكثر من 100 مليون شخص يستخدمونه يوميًا، مما يدل على تفاعل قوي من المستخدمين.

ونشر موقع "keywords everywhere" أرقاما حول عدد مستخدمي التطبيقة ليظهر أنه أحد أسرع التطبيقات نموًا في التاريخ.
وبيّن أنّ ChatGPT عندما أطلق نهاية عام 2022 حقق 1 مليون مستخدم خلال 5 أيام فقط.
وفي جانفي 2025، أصبح الموقع الثامن الأكثر زيارة عالميًا، بعد عمالقة التكنولوجيا مثل Google وYouTube وFacebook.
ويستخدم ChatGPT عبر فئات عمرية مختلفة تتراوح بين 18 سنة وأكثر من 65 سنة، والشريحة الأكثر استخداما هي بين 25–34 سنة (تمثل 30.23% من إجمالي المستخدمين).
وعند دمجها مع فئة 18–24 سنة يشكلون معًا 54.49% من المستخدمين مما يُظهر انتشارًا قويًا بين الشباب والبالغين الصغار.
وينخفض الاستخدام مع التقدم في العمر، حيث أثبتت الأرقام أنّ المستخدمين الذين يبلغون من العمر 55 سنة فأكثر لا تتجاوز نسبتهم الـ8.33%

لماذا نتحدّث مع ChatGPT ؟
يمكن إرجاع بداية هذه الظاهرة إلى التطور المذهل في قدرات نماذج اللغة الكبيرة، حيث أصبحت هذه النماذج قادرة على محاكاة الحوار البشري بشكل مقنع وفهم السياقات المعقدة، والاستجابة بطريقة تبدو طبيعية وودودة، كما أصبح لها القدرة على توليد نصوص إبداعية، وتقديم تفسيرات وافية.
أصبح روبوت الدردشة قادرا على الانخراط في محادثات مفتوحة وليست مجرّد محرك بحث أو برنامج تقليدي
هناك عدة عوامل ساهمت في خلق هذا التفاعل الفريد بين المستخدمين والذكاء الاصطناعي من بينها:
*الحاجة إلى التواصل والانتماء: في عالم مليء بالضغوطات والتحديات، قد يجد بعض الشباب في التفاعل مع آلة لا تطلق أحكامها المسبقة ومتاحة دائمًا منفذًا للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم دون خوف من الانتقاد أو الرفض.
*الفجوة الرقمية بين الأجيال: هذه الفجوة تخلق تحديا كبيرا يواجه العائلات في عصر الرقمي، ويمكن أن تؤدي إلى انخفاض في التواصل العائلي كما يمكن أن تزيد من الشعور بالوحدة.
*الشعور بالفهم والدعم: تم تصميم نماذج اللغة الكبيرة لتقديم استجابات متعاطفة وداعمة، مما قد يخلق لدى المستخدم شعورًا بالاستماع والفهم، خاصة إذا كان يفتقر إلى هذا الدعم في حياته الواقعية.
*الفضول والتجربة: طبيعة هذه التقنية الجديدة تثير فضول الشباب وتشجعهم على استكشاف حدودها وقدراتها، بما في ذلك اختبار مدى قدرتها على محاكاة العلاقات الإنسانية.
*الهروب من الواقع: قد يلجأ البعض إلى هذه التفاعلات الافتراضية كنوع من الهروب من المشاكل أو الوحدة في حياتهم الواقعية، حيث يجدون في العالم الرقمي ملاذا آمنا ومريحا.
*تأثير التصميم والواجهة: تم تصميم واجهات هذه النماذج لتكون سهلة الاستخدام وجذابة، مما يشجع على تفاعل مستمر وطويل الأمد.

ما هي المخاطر المحتملة ؟
على الرغم من الفوائد المحتملة في بعض الحالات، إلا أن هناك مخاطر جدية عند الدردشة مع روبوت ChatGPT يجب الانتباه إليها على غرار:
*علاقات غير حقيقية: الاعتماد بشكل كبير على الذكاء الاصطناعي في تلبية الحاجات الاجتماعية والعاطفية قد يؤدي إلى ضعف العلاقات الحقيقية مع الأصدقاء والعائلة وإلى الشعور بالعزلة الحقيقية على المدى الطويل.
*التأثير على الصحة النفسية: الحديث الافتراضي قد يسبب مشاكل مثل الاكتئاب والقلق والتعلّق المرضي فيبعض الحالات
*تطور الاعتماد النفسي: قد يتطور لدى البعض تعلق عاطفي غير صحي بالذكاء الاصطناعي، مما يؤدي إلى صعوبة في التفاعل مع البشر الحقيقيين والشعور بالقلق أو الضيق عند عدم القدرة على الوصول إلى هذه التقنية.
*تشويه مفهوم الصداقة والعلاقات: الصداقة الحقيقية مبنية على التبادل العاطفي الحقيقي والتضحية والتفهم العميق وهي جوانب لا يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاتها بشكل كامل. والاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحل محل العلاقات الإنسانية قد يؤدي إلى توقعات غير واقعية في العلاقات الحقيقية.
*مخاطر مشاركة المعلومات الشخصية الحساسة: الثقة المفرطة في الذكاء الاصطناعي قد تدفع البعض إلى مشاركة معلومات شخصية حساسة، مما قد يعرضهم لمخاطر تتعلق بالخصوصية والأمان.
*تأثير على النمو الاجتماعي والعاطفي: الاعتماد المفرط على التفاعلات الافتراضية قد يعيق تطور المهارات الاجتماعية والعاطفية اللازمة للتفاعل الناجح في العالم الحقيقي.
"كلما كثر استعمالنا للتكنولوجيا كلما تضاءلت علاقاتنا الإنسانية"
العلاقات الافتراضية مع روبوتات الدردشة أصبحت ظاهرة تثير قلق العلماء، حيث أظهرت دراسة قامت بها جامعة ستانفورد سنة 2023 أن 35% من مستخدمي تطبيقات الدردشة الافتراضية على غرار (Replika وChatGPT) يفضلون المحادثة مع الذكاء الاصطناعي عندما يشعرون بالوحدة نظرا لغياب الأحكام المسبقة في ردوده، مقارنة بالتفاعلات البشرية المعقدة، ويظهرون سلوكيات إدمانية مثل:
+قضاء أكثر من ساعتين يوميًا في محادثات صوتية أو نصية مع الذكاء الاصطناعي
+الشعور بالتوتر إذا تأخر الرد أو إذا كانت الإجابة مقتضبة أو باردة
+تفضيل هذه المحادثات على التواصل مع الأصدقاء أو العائلة
كما حذرت منظمة الصحة العالمية سنة 2024 في تقريرها عن الصحة الرقمية من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي للحصول على الدعم العاطفي، موضّحة أن هذا الأمر يُضعف المهارات الاجتماعية لدى المستخدمين خاصة المراهقين، ويعمق الشعور بالوحدة، لأن الروبوت رغم ذكائه لا يملك وعيا أو تعاطفا حقيقيا.
وذهبت شيري توركل (SHERRY Turkle) الباحثة في ميداني الأنثروبولوجيا وعلم النفس والأستاذة بمعهد ماساتشوستس (Massachusetts) للتكنولوجيا في كتابها "وحيدون ونحن معاً" إلى أنّه "كلما كثر استعمالنا للتكنولوجيا وتطور كلما تضاءلت علاقاتنا الإنسانية وتدهورت"، معتبرة أن الانسان يحاول خلق نوع من الألفة مع صديق افتراضي لا يحزن إن اختفينا ولا يشاركنا ضحكة حقيقية".
وبيّنت أن علاقة المستخدمين بالروبوتات خلقت نوعا من العزلة و"علاقات حميمية" من نوع مختلف، مؤكّدة "مستعدون عاطفياً وفلسفياً لاستقبال التعامل مع الروبوتات ليس فقط كما نستقبل الحيوانات الأليفة المرافِقة كالقطط والكلاب، بل كأصدقاء محتملين وأيضاً كشركاء في الحب".
لا تُخبروا ChatGPT بأسراركم !
حذّر العديد من الخبراء في الذكاء الاصطناعي من الثقة الزائدة في روبوت الدردشة ChatGPT والحديث معه عن أسرار حياتهم أو عملهم أو تفضيلاتهم السياسية.
وقال مايك وولدريدغ أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة أكسفورد، إنّ مشاركة الأسرار والبيانات الشخصية الخاصة مع "شات جي بي تي" هو أمر غير حكيم على الإطلاق، لأن أي شيء يتم الكشف عنه لهذا الروبوت يمكن استخدامه في تدريب الإصدارات المستقبلية منه، وفق ما نقله موقع "العربية.نت"
كما أضاف يجب على المستخدمين أيضاً ألا يتوقعوا أن يحصلوا على إجابات متوازنة لأسئلتهم واستفساراتهم لأن التكنولوجيا ستخبرهم بما يريدون سماعه.
وبيّن أنّ الكثير من البشر يتوقعون من روبوتات الدردشة أن تظهر لهم التعاطف وتجيبهم عن أسئلتهم بالمنطق والوعي ولا يدركون أن الذكاء الاصطناعي ليس لديه أي وعي أو تعاطف.
كيف يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي باعتدال؟
للاستفادة من إمكانيات الذكاء الاصطناعي دون الوقوع في مخاطر الاعتماد المفرط، من الضروري تبني نهج متوازن وواعي، ويجب على المستخدم أن يفهم طبيعة الذكاء الاصطناعي وأن يتذكر دائمًا أنه أداة وبرنامج حاسوبي، وليس كائنا حيا أو شخصا حقيقيا لديه مشاعر أو وعي.
يجب أيضا المحافظة على العلاقات الحقيقية بإعطاء الأولوية للعلاقات مع الأصدقاء والعائلة في العالم الحقيقي، وتخصيص وقت وجهد للحفاظ عليها وتنميتها.
ومن المفترض استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة في جوانب معينة من الحياة مثل البحث عن المعلومات أو توليد الأفكار أو تعلم مهارات جديدة، وليس كبديل للتفاعلات الإنسانية الحقيقية وتجنب الانغماس المفرط فيها.
ولا يمكن إغفال دور العائلة والمؤسسات التربوية في توعية الشباب بمخاطر الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي وأهمية الحفاظ على التوازن بين العالم الرقمي والعالم الحقيقي، وتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الاجتماعية والواقعية والهوايات التي تعزز التفاعل البشري المباشر.
من المهم أيضا فصل حياتنا الافتراضية عن الواقعية من خلال تحديد وقت لاستخدام مواقع التواصل الاجتماعي ووقت للأنشطة الأخرى. هذه الأنشطة يمكن أن تشمل الرياضة، القراءة، أو قضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة.
وفي الختام، يمكن التأكيد على أن التفاعل بين الشباب والذكاء الاصطناعي ظاهرة معقدة تحمل في طياتها رغبة في الهروب من الواقع والأحكام والضوابط الاجتماعية، لكن من الضروري فهم هذه الديناميكية الجديدة والتعامل معها بوعي وحذر، مع التأكيد على أهمية الحفاظ على العلاقات الإنسانية الحقيقية واستخدام التكنولوجيا كأداة لتعزيز حياتنا وليس لاستبدال جوهرها الإنساني، لتجنّب ما حدث لبطل المسلسل "I’m Not a Robot" الذي تحوّل ارتباطه بالروبوت المتكلّم إلى هوس وعمّق عزلته عن العالم، لكن الخوف من أن نكون "أمام جيل جديد يُعرّف الوحدة بأنها.. غياب الروبوت الذي يفهمني".
*أميرة العلبوشي