languageFrançais

8 مارس .. الحكاية والعبرة

"إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار ولكن في باطنه نظر وتحقيق" ولعل ما يتخذ أشكالا إحتفالية اليوم أو انحصرت مظاهره في يوم عطلة أو تكريمات بروتوكولية، كانت وراءه عقود من الظلم والقهر والإستغلال..
كثيرون لا يعلمون أن 140 إمرأة عاملة في مصنع نسيج، قد انتهت حياتهن فجأة وبشكل جماعي وتراجيدي، بعد نشوب حريق هائل بمبنى المصنع، ولم تستطع العاملات -اللاتي كانت أغلبهن من المهاجرات الإيطاليات واليهود- الخروج من "سجنهن الملتهب" لأن المسؤولين عن المصنع اعتادوا غلق الأبواب بالأقفال لمنع العمال من التدخين خارج المبنى.. وإنتهى المشهد الأليم بـ 140 جثة لإمرأة محترقة، أو بعض الجثث لنساء ألقين بأنفسهن من الشرفات العالية للطابق التاسع والعاشر في محاولة للهروب من ألسنة اللهب.. 140 أما وزوجة وإبنة كلهن من طبقات فقيرة.


هذا الحادث المأساوي الذي عُرف بحريق مصنع القمصان المثلث، وقع في الخامس والعشرين من مارس عام 1911، وفي مدينة نيويورك بالولايات المتحدة، مأساة فضيعة أدّت إلى لفت أنظار الحكومة إلى الظروف المتردية التي تعمل بها النساء في الولايات المتحدة.
قبل هذا، وفي 1856 خرجت آلاف النساء للاحتجاج في شوارع المدينة ذاتها ضد الظروف اللاإنسانية التي كن يجبرن على العمل تحتها، وقد تدخلت الشرطة بطريقة وحشية لتفريق المتظاهرات إلا أن المسيرة نجحت في دفع المسؤولين والسياسيين إلى طرح مشكلة المرأة العاملة على جداول أعمالهم اليومية. وفي 8 مارس 1908 عادت الآلاف من عاملات النسيج للتظاهر من جديد في شوارع المدينة، لكنهن حملن هذه المرة قطعاً من الخبز اليابس وباقات من الورود في خطوة رمزية واشتهرت حركتهن بشعار "خبز وورود".


وطالبت هذه المسيرة بتخفيض ساعات العمل وبوقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الإقتراع (نعم حينها كانت النساء في أمريكا لا حق لهن في الانتخاب). وشكلت مُظاهرات الخبز والورود بداية تشكل حركة نسوية متحمسة داخل الولايات المتحدة خصوصاً بعد انضمام نساء من الطبقة المتوسطة إلى موجة المطالبة بالمساواة والإنصاف.. وبدإ الإحتفال بالثامن من مارس يوما للمرأة الأمريكية تخليداً لهذه المظاهرات .


غير أن تخصيص يوم الثامن من مارس كعيد عالمي للمرأة لم يتم إلا بعد سنوات طويلة من ذلك، لأن منظمة الأمم المتحدة لم توافق على تبني تلك المناسبة سوى سنة 1977 وعندما أصدرت المنظمة الدولية قراراً يدعو دول العالم إلى اعتماد أي يوم من السنة يختارونه للإحتفال بالمرأة، فقررت غالبية الدول اختيار الثامن من مارس، وتحوّل بالتالي ذلك اليوم إلى رمز لنضال المرأة تخرج فيه النساء عبر العالم في مظاهرات للمطالبة بحقوقهن ومطالبهن.


وفي غمار كل هذا، خاضت تونس معركتها أيضا، وجعلت يوما للمرأة قبل قرار المنظمة الدولية بسنوات، وهو تاريخ 13 أوت 1956، ذكرى تبني دولة الاستقلال لمجلة الأحوال الشخصية التي سنّت قوانين للأسرة تم اعتبارها ثورية، خاصة في مجتمع عربي محافظ، على غرار منع تعدد الزوجات وسحب القوامة من الرجل وجعل الطلاق ضمن صلاحيات المحكمة لا بيد الرجل.. قرارات كانت نتاج مخاض تاريخي إصلاحي وحركة اجتماعية وسياسية حافلة، لكنها لم تمرّ بسهولة.

فقد ثارت ثائرة جزء من الساحة الدينية الذي اعتبر أن المجلة «تنتهك الشريعة الإسلامية». وفي 14 سبتمبر من العام نفسه، نشر 13 عضوا لمحكمتين شرعيتين علويتين فتوى يعلنون فيها أن مجلة الأحوال الشخصية تحتوي على توجهات مدانة لأنها مخالفة للقرآن والسنة والإجماع. وكرد فعل من الرئيس الحبيب بورقيبة، تم  فصلهم جميعا أو إحالتهم على التقاعد المبكر، بينما تم إيقاف الأئمة الذي ألقوا خطبا ضد المجلة والشيوخ الذين وقعوا على عرائض أو مقالات ضدها. وأرسل بعدها بورقيبة لهم رسالة ضمن خطاب له قال فيها: "أنا مسلم مثلكم، أحترم هذا الدين الذي قدمت له كل شيئ، حتى ولو كان ذلك فقط من خلال إنقاذ أرض الإسلام من الإذلال الاستعماري... ولكن بحكم واجباتي ومسؤولياتي، أنا مؤهل لتفسير القانون الديني".

 

لعل واقع التونسيات اليوم، يعدّ أفضل من نظيراتها في باقي الدول العربية والإفريقية، فبعد أن كانت تونس سباقة ورائدة في تقنين ومنع ما لم تتجرأ دول أخرى على منعه إلى اليوم، ها أن مؤسستها التشريعية تقرّ مؤخرا  قانونا جديدا لمكافحة العنف ضد المرأة.. وبين التشريعات واليوميّ المُعاش، تأتي الأرقام غير المُفرحة لحقيقة تنامي العنف وتواصل الاستغلال والتمييز ضد النساء، لتنغّص على "المتبجحين" في كل محفل بمكانة المرأة التونسية فرحهم وإفتخارهم.. لكن المؤكد اليوم، أن أمام نساء العالم طريق طويل نحو تحقيق النديّة والمساواة، وعلى نساء تونس مواصلة معاركهن التي قد تكون للتو قد بدأت.

 

أمل الهذيلي