languageFrançais

قوانين..مراسيم..صناديق..ولا شيء تغيّر في حياة 'أميرة'!

''كنت أغادر منزلي على الساعة الثالثة فجرا حتى أكون في الحقل على الساعة السادسة صباحا، نتكدّس واقفات داخل الشاحنة التي لا تسعنا مع 'صرة' غدائنا فنعلقها للتدلى في الخارج.. نستعمل مبيدات خطرة بلا أي وسائل حماية، نجد الثعابين والعقارب خلال عملنا..نحفر نزرع نحصد..نحمل الأكياس الثقيلة.. كل هذا بعشر دنانير لأن ''الوسيط'' يأخذ خمسة دنانير لقاء رحلة إيصالنا التي سمعتم كثيرا عن انتهائها بالموت..''

لم يتغيّر شيء في حياة أميرة بن عمر العاملة الفلاحية (35 سنة) منذ وضع قوانين ومراسيم رئاسية لتنظيم قطاع النساء العاملات في الفلاحة وتحسين ظروف نقلهن. بل إنها طُردت من العمل وصار ''الوسطاء'' يرفضون نقلها لأنها طالبت بحقها وحقوق النساء العاملات معها...

''حوادث كثيرة ونسوة يمُتن.. ولا أحد يعلم بهن''

بدأت أميرة إبنة ''المزونة'' رحلتها في عالم العمل الفلاحي منذ بداية عشريناتها، وجدت نفسها زوجة لعامل يومي وأما، وكان عليها أن تجد مورد رزق تُعين به زوجها، وتقول "ما اخترتش العمل في الفلاحة..الظروف لزّتني.. في المزونة ما عناش خيارات أخرى".

تذكر أميرة الثلاثينية اليوم، أول يوم لها في هذا العمل، وكيف نُقلت مع عشرات النسوة الأخريات في شاحنة تفتقد لكل مقوّمات السلامة، وكان عليها أن تستيقظ على الساعة الثالثة فجرا لتبدأ الرحلة نحو منازل بقية النسوة ثم الحقول التي سيعملن فيها، وحتى يكنّ في الحقل على الساعة السادسة صباحا. 

عن رحلة النقل تؤكد ''حملونا مرات في شاحنة نقل البضائع.. تلك التي يُنقل فيها الدواب..كنا حوالي ثمانين إمرأة واقفات لأنهم سكبوا الماء تحت أقدامنا لمنعنا من الجلوس، نقطع كيلومترات طويلة في هذه الظروف، سقطت نسوة مسنات وكُسرن وأصبن بجروح متفاوتة كلما ضغط السائق على الفرامل..''

كما تذكر أميرة أن إحدى العاملات الفلاحيات اللاتي عملن معها فقدت حياتها بعد نزولها من الشاحنة وخلال قطعها الطريق المظلم..لأن شاحنة أخرى دهستها. وتؤكد ''ثمة حوادث كثيرة لا يسمع بها أحد وتموت فيها النسوة..''.

''دفنت ذراعها التي فقدتها بسبب شاحنات الموت.. وتزورها كل أسبوع''

كما روت  أميرة قصة مؤلمة لإحدى العاملات الفلاحيات اللاتي كنّ ضحية أحد حوادث ''شاحنات الموت'' في سيدي بوزيد، وفقدت ذراعها في الحادث، فدفنته في إحدى المقابر، ''ما تزال هذه المرأة تذهب لزيارة ذراعها كل أسبوع.. وفي كل عيد أو مناسبة..''. كما تؤكد أميرة تركيب ''ذراع اصطناعي'' لهذه المرأة لكنها غير مناسبة لها، وتتساءل ''تُرى لو كانت هذه المرأة لاعبة كرة قدم أو رياضية.. هل كانت ستعاملها الدولة بهذا الشكل؟'' 

وعن خطورة هذا العمل الشاق وغير الآمن، تقول أميرة متأثرة ''أنا أخاف الموت وأخاف أن أذهب إلى الحقول ولا أعود إلى أطفال الأربعة..كلما ماتت إمرأة فلّاحة في أحد الحوادث وذهبنا إلى العزاء، كنتُ أعزّي أهلها وأنا أفكر في اليوم الذي سيأتي الناس لعزاء أهلي أيضا..''. 

''في الحقل لا أحد يعلّمك، تتعلم وحدك..كنت لا أعرف حتى معنى 'البيوت المكيّفة'، ولا طريقة جني ''الفلفل''..صاحب الحقل صاح في وجهي في ذلك اليوم..ولم أتحمّل الأمر.. لكني استمريت في الذهاب لأن لا خيارات أخرى لي''.. هذا ما أكدته ضيفتنا في برنامج ''واحد من الناس'' التي  حلّت بيننا بعد مشاركتها في  المؤتمر الثاني لحراك "أصوات عاملات الفلاحة" تحت شعار "الاعتراف بمهنة عاملة في القطاع الفلاحي"، وهو مؤتمر جمع المئات من النساء العاملات من مختلف ولايات الجمهورية اللاتي شاركن في المطالبة بالاعتراف الكامل بحقوقهن في القطاع الفلاحي والقطع مع عقود من التهميش والانتهاكات المستمرة.

''نحن من نقوم بكل الأعمال الشاقة..والرجال يتقاضون ضعف أجرنا وأكثر'' !

عن يومها في هذا العمل والمهام الموكلة للنسوة في الحقول، تقول أميرة ''نقوم بكل شي، نزرع، نحصد، نرش المبيدات الحشرية الخطرة التي يتجنبها صاحب الحقل ويبتعد حين نبدأ في رشها بلا كمامات ولا قفازات ولا أية وسائل حماية..نحن معرضات لكل المخاطر من عقارب وأفاعي.. وإذا مرضت إحدانا فلا تأمين صحي لنا.. حتى إذا ما تمتعنا بمجانية العلاج فإن الدواء نشتريه على حسابنا الخاص.. ونحن في كل هذا أجورنا التي نمسكها بين أيادينا هي عشر دنانير.. لا غير.. لأن ''السمسار'' يأخذ خمسا منها.. والأجر القانوني الذي تم تحديده لا يتم تطبيقه..''.

كما حدّثتنا أميرة عن الحيف والتمييز الجنسي في هذا القطاع منذ عقود، ''نحن نقوم بكل الأعمال الصعبة والخطرة في الحقول.. والرجال يرفضون غالبا هذا العمل.. وحتى إن عملوا فهم يكتفون بحمل الأكياس ووضعها في الشاحنات..ويتلقون أجورا تضاعف أجورنا وأكثر..''.

"....لست نادمة'' !

انخرطت محدثتنا في حراك العاملات الفلاحيات منذ سنوات وبشكل عفوي وتلقائي، لأنها وكما تقول ''ترفض الظلم والاستغلال''. وتم طردها وإقصاؤها لأنها احتجت على ظروف النقل ومعاملة ''الوسطاء'' السيئة للنساء، ''يعاملوننا كما لو أننا سلعة.. نتعرض للعنف اللفظي والمعاملة السيئة.. وفي الحقول نتعرض لذلك أيضا، إضافة إلى التحرش والمضايقات..''. لكن أميرة لم تبق مكتوفة اليدين، وهي تعد محظوظة لأن زوجها مساند لها، فقد اقتنى لها دراجة نارية صارت تتنقل على متنها إلى الحقول. ''صرت أخرج من منزلي في ساعة معقولة، أحمل غذائي وأصل الحقل بلا أي مشقة ولا مخاطر ولا أقتسم أجري مع أي من الوسطاء...وحين صرت أحدث النسوة عن جدوى هذه الفكرة وأشجعهن على النسج على منوالي.. تم إقصائي من الحقول أيضا.. أنا اليوم معطلة عن العمل ولا أعمل إلا في موسم جني الزيتون... لكني لست نادمة''. 

كما انتقدت أميرة القوانين التي تم وضعها لتنظيم هذا القطاع، معتبرة أنها قوانين مسقطة غير مناسبة لحقيقة وواقع هذا العمل، إذ أن تخصيص ''حافلات'' للنساء الفلاحات ليس بحل مناسب لأنها الحافلات لا يمكنها بأي حال أن تدخل المسالك الفلاحية الوعرة، وهو ما يجعل العاملات مجبرات على قطع كيلومترات طويلة على الأقدام في حال اقتنينها، مما يجعلهن يفضّلن ''شاحنات الموت''.

ولأميرة الحل لهذا الإشكال، فهي تقول ''وجب وضع وكالات متخصصة في العمل الفلاحي، توفر شاحنات مهيئة وتحترم معايير السلامة، تنظّم عمل النساء وعلاقتهن الشغلية مع الفلاحين، وتضمن حقوقهن''، وتعقّب على هذا فتقول ''من وضع القانون لم يستمع لنا نحن العاملات على الأرض..''.

أمل الهذيلي