قراءة أخرى لتواتر الحرائق في المؤسسات التعليمية والمبيتات..
مضى شهر عن الليلة التي شهدت مأساة إحتراق مبيت تالة بالقصرين، وتسببت في وفاة الطفلتين سرور ورحمة، مأساة لم تنته هناك، بل تلتها حرائق مشابهة اندلعت في عدد من المبيتات والمعاهد، وكادت تتسبب في كوارث مشابهة...
''سلوكات محفوفة بالمخاطر''
الإدمان، ''الحرقة''، التطرف والعنف.. كلها تدخل في خانة "السلوكات المحفوفة بالمخاطر'' التي تهم شريحة هامة من الأطفال والمراهقين. ونحن اليوم، أمام ظاهرة تصنف ضمن هذه السلوكات، خاصة فيما يتعلق بأعمال الحرق التي ثبت تورط تلاميذ فيها، وما تزال تحت أنظار القضاء.
'' إن أعمال العنف التي يقدم عليها المراهقون، مرتبطة بثلاثة عوامل رئيسية هي الشخصية والوضعية والمحيط، يكفي أن تكون أحد هذه العوامل غير مستقرة، لأن يقدم المراهق على أفعال من هذا النوع.." بهذا فسّر الأخصائي النفساني بالديوان الوطني للأسرة والعمران البشري العربي النفاتي (مختص بالسلوكات المحفوفة بالمخاطر لدى الشباب والمراهقين) في تصريح لموزاييك، ما يمكن أن يدفع مراهقا وتلميذا إلى الإقدام على إضرام النار في مؤسسة يدرس أو يقيم بها، ويُفترض أن تكون ''مؤسسته''. إذ أن الأمر المثير إلى الانتباه، أن أغلب الحوادث التي انطلقت سويعات بعد حريق تالة، تبين لاحقا وقوف تلاميذ وراءها ومن داخل المؤسسة التربوية.
''مراهقون يعيشون أزمة هوية وفي مرحلة الثورة''
ففي 6 فيفري 2018، أي 24 ساعة بعد كارثة مبيت تالة، جدّ حريق ثاني بمدرسة الشعانبة الابتدائية بمعتمدية الدهماني من ولاية الكاف، وأتت النيران على قاعة الإعلامية وجزء من قاعة الطعام. يومان فقط بعدها، تمت السيطرة على حريق في مبيت إعدادية بالقصرين، وفي 13 من الشهر ذاته، شهدت ولاية سليانة حريقا آخر أتى على مبيت الإناث بمعهد كسرى. وفي فجر الخميس 22 فيفري 2018، استيقظ التلاميذ بمبيت الذكور باعدادية أبو بكر القمودي بسيدي بوزيد، على ألسنة النيران تأكل الحشايا والأثاث، وتم التدخل سريعا لتجنب الأسوأ.. وانحصرت الشبهة فيما بعد في أحد التلاميذ المقيمين.
يقول العربي النفاتي في هذا الصدد أيضا "هؤلاء التلاميذ هم في مرحلة المراهقة، وهي المرحلة التي يعيش فيها الطفل أزمة هوية، كما أنها مرحلة الثورة على القوانين والعائلة والذات أيضا، وهي المرحلة التي يتعلق فيها المراهق بشيء ما أو مثال ما.. وهنا تجدر الإشارة إلى أن التصور للأحداث الذي يكون عند المراهقين يكون مغايرا للواقع، على غرار أن يروا في من يقدم على حرق مدرسة أو مبيت بطلا.. كما أن هذه الأفعال قد تكون طريقة يبلّغ بها الطفل صوته أو يثير الانتباه إليه ولإثبات ذاته ".
إشتعال النيران لم ينته بانتهاء شهر فيفري، لتتواصل سلسلة الحرائق التي أبت أن لا تندلع إلا في مؤسسات معتمديات "داخلية" ومناطق وُصِمت بالفقر والتعميش. ففي غرة مارس الجاري، اشتعلت النيران في مكتب بطاقات الدخول في معهد 9 أفريل بسيدي بوزيد أيضا، وأتت على دفاتر المناداة وبطاقات الدخول، لتقول روايات متقاطعة أن الفعل أقدم عليه تلاميذ تغيبوا عن الدروس وأرادوا طمس أثر غياباتهم. اليوم أيضا، وفي ساعات الفجر الأولى أيضا، استيقظ تلاميذ مبيت الذكور بمدرسة إعدادية بالسبيخة على أعمدة الدخان.. وتمت السيطرة على الحريق بعد أن أتى على جانب هام من الأثاث. وقد اعترف أربعة تلاميذ بتورطهم في إشعال النيران.
''مشاكل أسرية ونفسية وراء أعمال الحرق''
وأشار العربي النفاتي في السياق ذاته، إلى أنه يرجح أيضا أن تكون المشاكل الأسرية وراء أفعال مماثلة، قائلا "الإقدام على إضرام النار من طرف مراهق هو نتيجة وليس المشكل في حد ذاته.. من يعيش استقرارا نفسيا لا يقدم على هذا، وجب البحث عن المشكل الأصلي وراء هذا التصرّف". وشدد المختص في علم النفس أن كيفية التعامل مع المراهقين الذين أقدموا على هذه الأفعال بعد ثبوت التهم ضدهم، هو أمر شديد الأهمية، "إن التعامل معهم كمجرمين أو كأبطال هو في كلتا الحالتين مشكل". وأوضح "لو ألقينا بأطفال يعيشون هذه الإشكاليات في الإصلاحية.. فماذا ننتظر منهم فيما بعد؟ من الواجب توفير الإحاطة النفسية لهم وأن يقع إعادة إدماجهم في العائلة والمحيط الدراسي.. كما يجب أن يكون التكفل بهؤلاء من طرف العائلة والإطار التربوي والأخصائيين النفسانيين التابعين لمندوبيات التربية.."
للتعاطي الإعلامي دور أيضا..
وعن التعاطي الإعلامي مع ظاهرة حرق المؤسسات التربوية، إعتبر الأخصائي النفساني أنه وجب أن لا "تُعطى هذه الأعمال والأحداث حجما مبالغا فيه، وأوضح بالقول "حين يتم نقل الأحداث ونشر صور للحرائق والأضرار.. فإن هذا لا يمكن إلا أن يفاقم الظاهرة ويضخّمها.. تماما كما حدث مع ظاهرة إنتحار الأطفال". وأضاف "هذا الأمر قد يجعل الإقدام على الحرق الحل الأسهل للاحتجاج أو لفت الإنتباه". كما شدد على وجوب مراجعة رمزية حرق المؤسسات التربوية والمبيتات.. ومعرفة الأسباب حتى تكون المعالجة ممكنة.
أمل الهذيلي