languageFrançais

'دولة وبناوها': كيف شُيّدت الدولة التونسية على أكتاف الكفاءة والوطنية؟

بعد حصول تونس على استقلالها سنة 1956، واجهت الدولة الناشئة تحديات جسيمة تمثّلت في بناء مؤسساتها، وإرساء بنيتها التحتية، ووضع أسس اقتصادها الوطني. في ظل هذا السياق، برزت نخبة من الكفاءات الوطنية التي ساهمت بكفاءة نادرة وتفانٍ لافت، في تشييد الدولة التونسية الحديثة. وقد وثّق الوثائقي "دولة وبناوها" أبرز معالم هذا المسار من خلال تسليط الضوء على شخصيات محورية قادها الإيمان بالوطن، والثقة في العلم، وروح التضحية، إلى تحقيق منجزات ظلت شاهدة على مرحلة من أنبل مراحل العمل الوطني. 

خلال استضافتها في برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس، تحدّثت منى بن حليمة الرئيسة السابقة لجمعية خريجي المدارس الكبرى (ATUGE)، عن هذا الوثائقي الذي شاركت في إنتاجه، والذي يسلط الضوء على سبع شخصيات بارزة ساهمت في بناء تونس بعد الاستقلال، خاصة في مجالات مثل البنية التحتية، الصناعة، الطاقة، والاتصالات.

''بناة منسيّون''

أكدت بن حليمة في مستهل تقديمها لهذا الوثائقي وفكرة إنجازه، على أهمية العودة إلى الماضي معرفة وتحليلا، لفهم الحاضر وبناء المستقبل، مشيرة إلى "وجود نقص في معرفة التاريخ الوطني لدى الأجيال الشابة". واستشهدت بأمثلة عديدة لشخصيات لامعة اتّسمت بالكفاءة والتضحية وروح وطنية عالية، معبّرة عن أسفها "لكون هذه القيم لم تعد تحظى بالتقدير الكافي في زمننا الحالي" على حد قولها.

الهدف من هذا الوثائقي الذي يُعرض في عدد من قاعات السينما حاليا، كما أوضحت ضيفتنا، هو "إحياء الشعور بالفخر الوطني وتحفيز الشباب على الإسهام في تنمية تونس، رغم الصعوبات التي تمر بها البلاد".

وفي عودة على الشخصيات التي تناولها الفلم الوثائقي، فإن الكفاءة العالية كانت عنصرًا حاسمًا في تميزهم وفق ضيفتنا. إذ وصفت شخصيات مثل مختار لعتيري، علي بوخريص، منصور معلى، إبراهيم خوجة، عامر الحرشاني، مكي زيدي..  بأنهم تمتعوا جميعهم  بمستوى عالٍ جدًا من الكفاءة، وكثير منهم مهندسون أو خريجو مدارس عليا في فرنسا أو تونس. وقد اعتُبرت الكفاءة غدات الاستقلال، "قاطرة" تدفع بالقطاع أو الوطن إلى الأمام.

"خصال صنعت دولة''

كما عرّجت ضيفتنا على أهمية ثقة السياسيين في هذه الكفاءات، قائلة ''كان السياسيون يثقون ثقة كبيرة في القدرات التقنية والفكرية لخرّيجي الجامعات والمدارس العليا، وهو ما مكنهم من تنفيذ مشاريعهم، وهذه الثقة تُقارن اليوم بوضع مختلف حيث يُنظر إليها على أنها مفقودة". وشددت أيضا على اجتماع هؤلاء جميعا حول مشروع وطني موحِّد، إذ كانوا مجمعين على هدف واحد: بناء تونس بعد الاستقلال، ""وكان الحس الوطني والدافع للمساهمة في إعمار الوطن يتغلبان على الدوافع المادية".

إضافة إلى كل ما سبق من صفات وخصائص لبنات الدولة إثر الاستقلال، فقد طُبعوا وفق ضيفتنا بالإخلاص والاجتهاد في العمل، قائلة ''كانوا يعملون بتفانٍ شديد وغالبًا ما وُصفوا بأنهم "مدمنو عمل"، يعملون ليلاً ونهارًا، حتى في عطلات نهاية الأسبوع. لم يثنهم نقص الوسائل أو الصعوبات عن مواصلة جهودهم، كما فعل علي بوخريص الذي عاش سبع سنوات في المتلوي من أجل تطوير الصناعة هناك''.

كما آمن العديد منهم، مثل مختار لعتيري وإبراهيم خوجة، بأهمية تأهيل الأجيال الشابة لضمان مستقبل البلاد، فأسسوا مؤسسات كـ"المدرسة الوطنية للمهندسين بتونس (ENIT)" وأطلقوا برامج لتكوين النخب في الخارج. وكان التكوين في تلك الفترة يُعدّ شرطًا ضروريًا للاستقلال الذاتي. 

جيل التأسيس: "عندما اجتمعت الكفاءة بالشجاعة"

ويسلّط الوثائقي الذي تناول سيرة وخصائص سبع شخصيات تونسية، الضوء أيضا على صفات ''التواضع ونكران الذات''، وهي قيم تجسّدت في سلوكهم، فلم يكن الدافع الشخصي من أولوياتهم. وذكرت منى بن حليمة مثالا على ذلك، أنهم كانوا يعيدون الأموال غير المستعملة أثناء مهمات السفر، باعتبارها ''مالا عاما، حتى لو كانت مليمات قليلة''.

وإلى جانب كل ذلك، أكدت ضيفتنا أن هذه الأسماء اتسمت أيضا بالشجاعة، فقالت ''لم يخشوا التعبير عن آرائهم والدفاع عن قناعاتهم حتى عندما كانت تخالف سياسات الدولة. ويُذكر منصور معلى كمثال على هذه الجرأة، فقد عُرف بمواقفه وجرأته في وجه السياسيين ومغادرته مناصب عدة بسبب ذلك.

هذه العوامل مجتمعة، من كفاءة وثقة وتفانٍ ومشروع وطني وتكوين وشجاعة ونكران للذات، هي ما مكّن هؤلاء البناة من تجاوز تحديات ما بعد الاستقلال، وإنجاز مشاريع كبرى ما زال أثرها الإيجابي ملموسًا إلى اليوم في تونس، حسب ما خلصت له منى بن حليمة، وما يُمكن اكتشافه في الوثائقي ''دولة وبناوها''.

أمل الهذيلي