الأسيرة المحرّرة إسراء جعابيص: بأصابع مبتورة.. ترفع شارة النصر!
"إثر اعتقالي في ذلك اليوم الذي وقع في الحادث، كنت محترقة الوجه والأطراف وفي حالة صحية حرجة، وأصرّ زبانية الاحتلال على التحقيق معي وأنا في المستشفى.. كنت شبه غائبة عن الوعي.. حين سمعتُ صوت أمي تقول "صايرة أحلى من قبل''.
يوم 11 أكتوبر 2015، كان تاريخ انقلاب حياة المقدسية إسراء جعابيص، من أم فلسطينية كادحة تعيش حياة ''عادية'' إلى حد ما، الحد الذي كان متاحا للفلسطينيين بشكل عام، إلى أسيرة في سجون الاحتلال تعاني حروقا لم تُعالج ولم تشف منها إلى اليوم..حتى بعد تحريرها.
يومُ قلب حياة أم فلسطينية..
كانت إسراء في ذلك اليوم الذي بدا روتينيا، في طريقها من مدينة أريحا إلى مدينة القدس أين كانت تعمل يوميّاً، وكانت تنقل بعض أغراض بيتها إلى سكنها الجديد بالقرب من مكان عملها.. يومها كانت بالصدفة تحمل معها في سيارتها أنبوبة غاز فارغة وجهاز تِلفاز.. عند وصولها إلى "حاجز الزعيم" بأكثر من 1500متر، تعطلت السيارة قربَ مستوطنة ""معاليه أدوميم""، وحدث تماس كهربائي وانفجرت الوسادة الهوائية في السيارة الموجود بجانب المِقوَد، وهو موجود أصلًا للتقليل من مضاعفات حوادث السير، واشتعلت النيران داخل السيارة فخرجت إسراء بصعوبة من السيارة وطلبت الإسعاف من رجال الشرطة الإسرائيليين القريبين من مكان الحادث، إلا أنهم أشهروا أسلحتهم في وجهها المُحترق و لم يقدِّموا لها الإسعاف.. بل استنفروا وصار عددهم بالعشرات لمواجهة إمرأة محترقة وغير مسلّحة وتطلب المساعدة..
أعلنت شرطة الاحتلال في البداية أنه حادثُ سير عادي، ثم ما لبث الإعلام العبري أن عدَّ ما حصل عمليةً لاستهداف الجنود الإسرائيليين، واكتشفَ المحققون التلفازَ مع أنبوبة الغاز الفارغة، وانفجارَ الوسادة الهوائية في السيارة وليس أنبوبة الغاز، وعلموا أن تشغيل المكيف منعَ انفجار زجاج السيارة، لكنَّ المخابرات الإسرائيلية ادَّعَت أن إسراء كانت في طريقها لتنفيذ عملية... وهكذا حُكم على هذه الأم بمصير قاس وسبع سنوات داخل سجون الاحتلال المظلمة.. سبع رسخت فيها ندوب الحروق التي لم تُعالج، وبُترت فيها أصابع يديها الاثنتين، ورغم ذلك مازالت إسراء قادرة على رفع شارة النصر !
تحدثت لنا إسراء خلال استضافتها في برنامج ''واحد من الناس'' عن نزر قليل من ما عانته بعد هذا اليوم، بكثير من الهدوء، والابتسامة بالكاد تفارق وجهها. تجربتها التي خرجت منها بكتابين قدمت لتوقّعهما في معرض الكتاب: ''موجوعة'' و''فضفات''، أحدهما خطّت صفحاته داخل سجن الاحتلال وأخفت ورقاته في المجاري..
''أمي دخلت سرا إلى المستشفى..وكنت أسمعها تقول''شوفوا كيف صارت أحلى''
رحلة التنكيل والتعذيب بدأت منذ الأيام الأولى في المستشفى، أين تم التحقيق مع إسراء ولم يرحم أحد حروقها وآلامها. وحين صرّحت بأنها كانت تعمل في مجال التربية الخاصة مع الأطفال والمسنين، لم يصدّقها المحققون. تقول إسراء ''كنت محترقة الوجه ومبتورة الأصابع ومقيّدة اليدين، وكانوا مصرّين على تنقّلي مع المحققين إلى أقسام الأطفال.. في البداية لم أفهم السبب ثم خمّنت أنها كانت طريقتهم للتأكد من صحة عملي مع الأطفال.. رفضت الأمر وأصرّيتُ على عدم الامتثال، كنت خائفة على الأطفال.. إن شاهدوني هكذا أي رعب يمكن أن يصيبهم؟ كان همي الأطفال.. أعرف أن الخوف الذي يصيب الإنسان في طفولته لا يزول..''
ورغم قتامة هذه التجربة، تتحدث إسراء عن جزء منها مبتسمة وهي تستذكر زيارة أمها وبعض أفراد عائلتها لها في المستشفى وهي شبه غائبة عن الوعي. كانت الزيارات ممنوعة لكن أهلها وجدوا حيلة دخلوا بها وزاروها. ''أذكر صوت أمي وهي تقول لأختي داخل غرفة المستشفى 'شوفو إسراء.. صايرة أحلى من قبل''..'' وأردفت إسراء ضاحكة ''حين سمعتها تقول ذلك عرفت إني 'آكلة هواء'...''.
توفيت والدة إسراء أشهرا قليلا بعد تحريرها وذهابها للعلاج في الأردن.. أصيبت بمرض السرطان الذي لم يمهلها طويلا. تعلّق إسراء على هذا الحدث المؤلم فتقول ''السرطان مثل الاحتلال.. ما بيعطيك وقت..''.
''أخفيتُ كتاباتي داخل المعتقل في المجاري''
"بدك عمر عشان تنسى الجرح.. بدك دواء مناسب ينسّيك الجرح.. الجرح يطيب بس ندوبه تبقى..ودوائي وجدته في الكتابة منذ بداية الاعتقال''، تقول إسراء متحدثة عن تجربة الكتابة سرّا داخل معتقلات الاحتلال. تجربة ضحّت فيها إسراء بجهاز الراديو الممنوع أيضا والذي يتم إدخاله سرا، وتحملت الغرامات والعقاب، من أجل إنقاذ ما خطّته من أيادي السجانين. ونجحت في ذلك فعلا.
''كل ما مر بي وعشته تحمّلته لأجل رسالة: رسالتي الخاصة ورسالتي العامة.. كنت أبحث عن طريقة لأكون من جديد.. تلك الأم الحكاواتية التي يُحبها الأطفال.. الأسير كانت له أساليبه ليُحرّر عقله داخل ظلمات السجن..كانت لنا طرقنا وخططنا في كل موقف وتفتيش..وكانوا كلما اتفكّوا راديو أوجدنا آخر..''
''أول لقاء مع إبني.. ارتديت قناعا..''
كانت إسراء أما لطفل الست سنوات، ''معتصم''، يوم تم اعتقالها وتعرضت للحرق والبتر.. وكان همّها حينها كيف ستُلاقي ابنها، هل سيعرفها؟ هل سيخافها؟ فعمدت إلى صناعة قناع في شكل وجه ''نمر'' بإمكانياتها الخاصة، حتى إذا ما كانت أول زيارة ومقابلة بينهما، ارتدت هذا القناع وحاولت أن تكون تلك الأم الضحوك التي تسرد له الحكايا الممتعة. لكن إبنها طلب منها نزع القناع، وتأملها قائلا ''إنت أمي.. لم تتغيّري''. فكان ذلك أول خبر سارّ لإسراء بعد مأساتها.
استطاعت إسراء أن تسترجع علاقتها بإبنها، واطمأنت إلى أن شكلها الجديد لم يغيّر منها شيءا، ومازال معتصم ير بوضوح أمه الحنون المرحة. حاول السجانون تشكيكي في أمومتي وأنوثتي بشتى الطرق، كانوا يجلبون المجندات الجميلات بأظافر مطليّة ومساحيق تجميل وشعر طويل مرتب، وكانوا يضعون المرآة أمامي ويتنمرون على ندوبي وحروقي.. قالو لي 'اطلعي ع حالك.. ستخرجين من هنا ميتة أو مجنونة''. لكني خرجتُ، حية ولم يُجنّ غيرهم.
تحلم إسراء اليوم بحياة ''مستقرة''. تريد بيتا، ووطنا. وتعتبر أن وجودها في الأردن رغم وضعها الجيد هناك، لا يعدّ استقرارا. ''الاستقرار هو أنو يكون إلك بيت ببلدك''. وعن أمنياتها، تتمنى الأسيرة المحررة الحرية لجميع الأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال.. وتحلم بأن تشهد ذلك اليوم قريبا.
أمل الهذيلي