مقاومة بالكلمة والصورة.. صوت الصحفي لن يموت!
يا أنس.. لن يخمد صوت الحق، ولو خمدت الأنفاس
هناك، حيث المجزرة تلو الأخرى، حيث تختلط أصوات الانفجارات بصراخ الأبرياء ودموع الأمهات على فلذات أكبادهن، حيث تتحطم بيوت الأحلام وتتناثر أنقاض الطفولة..
هُناك، حيث يُقتل الورد قبل أن يزهر، ويختنق الهواء بعبق الألم والمعاناة.. يقف الصحفيّون كشموع مضيئة تحاول إنارة الطريق وسط الظلام. هم الذين يُغامرون بحياتهم يوميا ليكونوا العين التي لا تغفل، والأذن التي تلتقط صوت المظلوم، واليد التي تُوثّق بشجاعة وحشية الاحتلال وانتهاكاته.
هناك، في قلب المعاناة، يُصبح الصحفيون الأمل الوحيد للعالم ليشهد، وليعرف ما يجري حقا خلف ستار الصمت والإنكار.. يحملون على أكتافهم عبء نقل صور الألم والدمار، وكشف جرائم القتل والتدمير، ليصل صوت الضحايا إلى كلّ زاوية من الأرض، وليصبح شاهدا لا يمكن إنكاره على بشاعة ما يرتكبه الاحتلال من وحشية.

دونهم، تبقى الحقيقة مخفية في ظلام الحرب، وتتحوّل الآلام في غزّة إلى مجرد أرقام، تُمحى قصص الضحايا وسط الركام، وتُخنق الأصوات في صمت مميت يخنق أنفاس المدينة المحاصرة. بهم، تُضاء شعلة الأمل في قلب الظلم، وتُرفع راية الحقيقة لتكشف للعيان وحشية الاحتلال، ولتواجه الطغيان الذي يفرض صمته على العالم.
هُناك، في زمن يُغتال فيه صوت الحقيقة، ويُرسم فيه التاريخ بدماء الأبرياء الذين يحملون القلم والكاميرا هم خط الدفاع أمام الظلم، وأكبر السلاح ضدّ النسيان، يتعمد الاحتلال الصهيوني في كلّ مرّة اغتيال أصواتهم، صوتا تلو الآخر، في محاولة بائسة لإسكات من ينقلون وجه المعاناة ويكشفون زيف الروايات.
هُم الصحفيّون الذين يقفون في الصفوف الأمامية للمواجهة، حاملين على أكتافهم رسالة الأمانة والشفافية، يتحولون إلى أهداف مقصودة في مسعى لطمس الحقيقة..

'أنس' وأبطال الكلمة الحُرّة..
صواريخ طائرة مسيرة إسرائيلية غادرة، غيّبت مساء الأحد، الصحفي الفلسطيني مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف أيقونة التغطية الإعلامية للحرب على قطاع غزة رفقة مراسل القناة محمد قريقع و3 من طاقم التصوير، بعد استهداف مباشر لخيمتهم المقامة أمام بوابة مجمع الشفاء الطبي بمدينة غزة.
هذه الجريمة تأتي بعد عملية تهديد وتحريض شنّها المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي ضدّ الصحفي الشريف، امتدت على مدى أشهر طويلة. ليرتفع بذلك عدد الشهداء من الصحفيين إلى 238 منذ بداية حرب الإبادة على غزة في 7 أكتوبر 2023.
أنس الشريف ومحمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل

كان الطاقم يُوثّق معاناة الحياة اليومية حول أكبر مستشفى في القطاع، فجأة اخترق الانفجار أجواء المكان، تاركا صدى صفيرٍ قصير قبل أن يخيّم صمت ثقيل.. الصور المتسربة من هُناك، أظهرت سترات صحفية زرقاء ملطخة بالغبار والدماء، وكاميرات صمتت لتصبح شاهدة على مأساة لن تُنسَ..
يبدو أنّ الجيش الصهيوني، الذي اعترف باستهداف أنس الشريف، يزداد بطشا في قمع أصوات الحقيقة، خوفا من أن تكشف بشاعته أكثر للعالم أجمع، خاصّة وأنّ أنس الشريف كان صوت غزة، لم يكلّ أو يضعف، رغم التهديدات والتحذيرات والترهيب، ظلّ صوته يتردد في أرجاء القطاع، متحديا كلّ محاولات إسكاته.
الاحتلال الذي يمنع دخول وسائل الإعلام الدولية والأجنبية إلى غزة، يتعمد باستمرار ترهيب الصحفيين الموجودين هناك واستهدافهم، خوفا من استمرار كشف حقيقة الحرب والمجازر التي يرتكبها وإخفاء حجم جرائمه.
ورُبّما اغتيال أنس الشريف يأتي في سياق خطّة إسرائيلية لتصفية الصحفيين قبيل التمهيد لاحتلال مدينة غزّة بالكامل، وهو ما تُؤكّده المنظّمات الدولية، حيث بات استهداف الصحافة سياسة ممنهجة ضمن حرب الإبادة الجارية في القطاع.
الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين، أنتوني بيلانجر، بدوره تحدّث عن أنّ إسرائيل تستهدف الصحفيين عمدا لإخفاء الحقيقة. وأضاف بيلانجر أنّ غزة أصبحت أخطر مكان في العالم للإعلاميين، بعد اغتيال أكثر من 200 صحفي وإعلامي منذ بداية العدوان.

كيف لنا أن نتحدّث عن إفلات الاحتلال من عقاب اغتيال الصحفيين، وهو يرتكب المجازر والإبادات يوميا على مرأى ومسمع العالم بأكمله؟ يبدو أنّ الخوض في هذا السجال لن يتمخّض عنه أيّ قرار ضد هذا الكيان الغاصب في ظلّ سياسة الكيل بالمكيالين التي بسطتها المنظمات الدولية.
الاحتلال الذي يملك سجلا طويلا من اغتيال الصحفيين بشكل متكرّر، يسعى في كلّ مرة إلى إسكات الأصوات التي تكشف عن قبح سياساته ومخطّطاته، ليغرق العالم بعدها في صمت، رغم موجات الإدانات العابرة التي سرعان ما تتلاشى. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتكرّرة، منها استهداف عائلة الصحفي وائل الدحدوح بأكملها في محاولة لإسكات صوته وكتم الحقيقة.
صمت دولي مريب ولا محاسبة.. إلى متى؟
ورغم أنّ خبراء القانون الدولي أنّ استهداف الصحفيين في مناطق النزاع يُشكّل انتهاكا صريحا لاتّفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية، التي تنص بوضوح على اعتبار الصحفيين المدنيين أشخاصا محميين ما لم يشاركوا بشكل مباشر في أعمال قتالية، إلاّ أنّ المجتمع الدولي يظل صامتا ومتفرجا فقط.
حماية الصحفيين وضمان حريتهم في أداء رسالتهم ليست خيارا بل واجبا إنسانيا وأخلاقيا. هذا الواجب لا يقتصر على البيانات والتعازي فقط، بل يجب أن يترجم إلى إجراءات صارمة وتحركات حقيقية، بالإضافة إلى مبادرات تضامنية ترفع أصواتهم وتوفر لهم الحماية اللازمة على الأرض.
رغم التأكيد الواضح من خبراء القانون الدولي على أنّ استهداف الصحفيين في مناطق النزاع يُشكّل انتهاكا صارخا لاتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية التي تمنح الصحفيين الحماية كمدنيين ما لم يشاركوا في الأعمال القتالية، يظل المجتمع الدولي مغمض العينين، صامتا، ومكتفيا بالمشاهدة دون تحرك فعلي يُذكر.

هذا الصمت المريب لا يمكن تفسيره إلاّ بأنّه نتيجة لتوازنات سياسية ومصالح جيوسياسية تُغطي على جرائم الاحتلال، وتُعمّق من معاناة الصحفيين الذين يضحون بحياتهم لكشف الحقيقة. فبدلا من أن تتحول الإدانات إلى إجراءات ملموسة، تبقى الكلمات حبيسة البيانات الرسمية والبلاغات التي لا تغيّر من الواقع شيئا.
إنّ حماية الصحفيين وضمان حريتهم في أداء رسالتهم ليست خيارا بل واجبا إنسانيا وأخلاقيا لا يمكن التهاون فيه. ولا يكفي أن نرفع الصوت تضامنا عبر مواقع التواصل أو بيانات الاستنكار فقط، بل يجب أن تتحول هذه التضامنات إلى ضغط دولي حقيقي لمحاسبة إسرائيل ووقف الانتهاكات، وفرض عقوبات فعالة تُلزم الاحتلال بالاحترام الكامل للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.
الصحفي هو صوت المظلوم، هو شهيد الحقيقة، هو الحائط الذي تواجهه آلة الحرب والقتل لتطمس الذاكرة. اغتيال أنس الشريف وكلّ الصحفيين الذين سقطوا هو اعتداء على وجدان كلّ إنسان، على قيم الحرية، وعلى حقّنا في أن نعرف.. ففي النهاية، أنين الحقيقة لن يُخنق، وأصوات الشجاعة لن تقتل في مهدها. الصحفيّون الذين يغامرون بأرواحهم ليكشفوا لنا وجع غزّة ومعاناة أهلها، هم ضمير الإنسانية ونورها الذي لا ينطفئ.. وسيبقون على عهدهم.. ولن يبح صوتهم.
فإلى متى سيبقى دم الصحفيين في غزّة أرقاما تُحصى في سجلات الألم؟!
أمـــل منّاعــــي