languageFrançais

القصرين: مستثمرون شبّان على عتبات السّجن... و''الحرقة'' ملاذ آخرين

تكرّرت القصّة نفسها بين شابّ وآخر. في أحيان كثيرة، تبدو المبادرة برمّتها كأنّها وجه من أوجه العبث. فعندما يتحوّل الحلم إلى كابوس، وتتجلّى فكرة الخلاص في شكل ورطة،  ويصبح مسار النّجاح سبيلاً نحو الفشل، أو الإفشال (وبينهما خطّ رقيق فاصل)، فإنّنا إزاء أزمة حقيقيّة.


أسطر قليلة، قد تلخّص حكايات كثيرة،  لشباب من أصحاب الشّهادات العليا، ممّن اختاروا المبادرة، وتوجّهوا لبعث مشاريع في القطاع الخاصّ، وسط مناخ اقتصاديّ هشّ ومركّب ومعقّد.

من جائزة أفضل مشروع إلى أبواب السّجن أو "الحرقة": فسحة أمل وانكسار

"لقد تمّ اختيار مشروعي كأفضل مشروع في ولاية القصرين، سنة 2018، اليوم، وبعد أزمة كورونا، أي بعد سنتين، بتُّ مهددّاً بالسّجن... أشعر بأنّ الدّولة قد غرّرت بي"، هكذا شرح حسام (35 سنة)، وضعيّته، بعد عدم خلاص حرفائه له، بسبب عدم نيلهم مستحقاتهم من قبل الدّولة، ما جعله يكابد إشكاليّات عديدة، أهمّها عدم قدرته على خلاص صكوك بنكيّة تعامل بها، وفق تصريحه لموزاييك.


وحسام هو شابّ من ولاية القصرين، اختار بعث مشروع، بتمويل من البنك التّونسيّ للتّضامن، بكلفة تقدّر ب100 ألف دينار، لتأسيس شركة في مجال الطّاقة المتجدّدة، سنة 2017.


رأى مشروعه النّور سريعاً، وكان نموذجاً لباعث شابّ اختار بعناية فكرة مجدّدة، انتشلته من عالم البطالة نحو ما هو فارق، فأنجز ما أنجز، والتزم بخلاص قرضه. ثمّ، فتح خمس مكاتب كاملة، وشغّل مهندسِين وتقنيِّين وعملة، قبل أن تضرب كورونا مشروعه، سنة 2020، وتعيده إلى ما قبل بداياته.


يقول حسام:"في الموجة الأولى لكورونا، أجبرتنا الدولة على غلق مكاتبنا، على أن تتكفّل بخلاص مصاريفنا، لكنّها لم تفعل، فأغرقتنا في المشاكل الماديّة. ولم تتوقّف عند ذلك الحدّ، بل هرسلتنا بعدول التّنفيذ، بعدها، لتعمّق من مأساتنا".


ينتقد حسام، بشدّة، في تصريحاته السّياسات الوطنيّة والجهويّة، في التّعامل مع صغار الباعثين، وفي تجاهل مشاغلهم الحارقة، في وضع استثنائيّ، يتطلّب إجراءات استثنائيّة.


"مهندسان من أبناء المؤسّسة هاجرا بطريقة غير شرعيّة، نحو أوربا، بعد غلق شركتي لأبوابها، وهما الآن يشجّعاني على "الحرقة"، الأمر يستحقّ التّفكير!"...


 هكذا ختم حسام لقاءه مع موزاييك...
 
أحلام توأد قبل موعدها


محمّد خالد، 37 سنة، صاحب وحدة لصناعة الدّهن بولاية القصرين، ليس أفضل حظّاً من حسام، فبعد ملاحقته لحلمه لمدّة 12 سنة، يعود إلى مرحلة ما قبل البداية، مثقلاً بالمديونيّة، تلاحقه البطالة، وتتربّص به تداعيات مختلفة أخرى.


انطلقت فكرة محمّد خالد لتأسيس مشروع بقدرة إنتاجيّة وبطاقة تشغيليّة محترمة، سنة 2010، عندما نال الموافقات البنكيّة لتمويل مؤسّسته، ومع بداية دخوله طور الإنتاج، تعطّل جزء من الإجراءات بسبب أحداث الثّورة، ليجد مشروعه تحت الرّسملة المرصودة منذ البداية،  وليدخل في نقص التّمويل منذ انطلاقته؛ نتيجة عدم توفّر الموارد الماليّة، وغياب  الأموال المتداولة، وفق ما صرّح به الباعث الشّاب، صاحب الشّهادة العليا، لموزاييك.


يقول محمّد خالد إنّه دخل بعدها  في برنامج وطنيّ يرمي لإعادة هيكلة مؤسّسته، عبر صندوق دعم المؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة، لكنّ برنامج الإنقاذ تعطّل بدوره، بسبب الإجراءات الإداريّة، لتتآكل كلّ الأموال الخاصّة بمشروعه وفكرته.


بعد عشرة سنوات، توقّفت المؤسّسة بالكامل، وتعقّدت إشكاليّات الباعث الشّاب، ما دفعه لانتقاد كلّ السّياسات الخاصّة بالتشجيع على الاستثمار الخاصّ، خصوصاً لأصحاب الشّهادات العليا، مندّدا بإجراءات البنوك، والإدارة، على حدّ السواء، معتبراً كلّ ما يقال حول تشجيع بعث المشاريع الخاصّة في الجهات الدّاخليّة "مجرّد شعارات لممارسة تقتل طموح الشّباب الّذين اختاروا بعث مشاريع خاصّة".


بعد هذه الحلقة المفرغة الّتي استهلكت أكثر من عشر سنوات والكثير من الجهد والمال، يعتبر محمّد خالد أنّ حلمه قد تحوّل إلى كابوس يلاحقه، في كلّ لحظة، وفي كلّ مكان.

 

قطار يخفي آخر


لا تعتبر هذه الشّهادات إلاّ شجرة الصّعاب التّي قد تحجب غابات مشاكل هيكليّة للتّنمية الجهويّة في ولاية القصرين.


يؤكّد رئيس الاتحاد الجهويّ للصّناعة والتّجارة والصّناعات التقليديّة بالقصرين، مختار منصري، في تصريحه لموزاييك، أنّ مناخ الأعمال والنّسيج الاقتصاديّ الهشّ، في ولاية القصرين، الّتي تزخر بمدخرّات طبيعيّة وبشريّة قويّة، لم يخلق إلاّ الصّعوبات في القطاع الخاصّ.


يشدّد المنصري على أنّ القصرين تحتوي 12 منطقة جبليّة تحوّلت إلى مناطق عسكريّة مغلقة، بسبب الإرهاب، ما أضاف إشكاليّات مركّبة وجسيمة أخرى عطّلت الاستثمار في الجهة.


يذكّر بأن النّسيج الاقتصاديّ قد تحسّن في الجهة بعد سنة 2000، وبلغ، مثلاً، عدد المؤسسّات العاملة في مجال النّسيج، 42 مصنعاً، قبل الثّورة، لكن هذا العدد تضاءل إلى حوالي الثُّلث، سنة 2022، ب16 مؤسّسة، تعاني بدورها من صعوبات كثيرة، وهي اليوم مهدّدة بغلق أبوابها.


وفي حديثه عن أهمّ الإشكالات الّتي تحيط بالقطاع الخاصّ، إضافة لمناخ الأعمال الّذي يفترض أن يحتوي اساساً بنية تحتيّة معيّنة وبنية صحيّة وتعليميّة وغيرها، انتقد الدّور السّلبيّ للمؤسّسات الماليّة المرافقة للباعثين، وللسّلط الجهويّة والمركزيّة الّتي لم تتدخّل لحلحلة مشاكل هذه القطاعات، وغياب المرونة البنكيّة والضّمان الاجتماعيّ والأداءات في التّعامل مع المستثمرين في القطاع الخاصّ، وفق تصريحه.


وشدّد على أهميّة عقد جلسة وزاريّة لتوضيح سياسات الدّولة تجاه ولاية القصرين، لتخطّي مثل هذه المصاعب، ولخلق الثّورة لمكافحة البطالة.


أرقام مفزعة...

من جانبه، أكّد رئيس مصلحة الاستثمار بالإدارة الجهويّة للتّنمية بالقصرين سمير دخيللي، لموزاييك، أنّه يمكن تقسيم القطاع الخاصّ، في ولاية القصرين، إلى مجالين مهمّين، أوّلهما، خصوصاً، القطاع الفلاحيّ، ثمّ القطاع السّكنيّ، وتعتبر معدّلات الاستثمار فيها جيّدة، رغم بعض الصّعوبات الّتي ترافقها، وثانيهما، الصّناعة والخدمات والسّياحة، والّتي تعتبر أرقامها ضعيفة جدّاً، ومصاعبها كثيرة وشاملة.


ففي مجال الفلاحة، تشير أرقام الإدارة الجهويّة للتّنمية إلى أن معدّل الاستثمارات فيها تقدّر ب 50 مليون دينار سنويّاً، بطاقة تشغيليّة تناهز 560 موطنَ شغل، دون اعتبار المشاريع الصّغرى، واليد العاملة الظّرفيّة والموسميّة.


لكنّها تعاني من صعوبات من نوع آخر، أهمّها الكهربة والمشاكل العقّاريّة، ومعظلة إسناد الرّخص خصوصًا للآبار العميقة؛ الّتي جعلت معظم الاستثمارات الفلاحيّة تتركّز في مناطق دون غيرها، باعتبار تصنيف مساحة كبيرة، تضاهي نصف ولاية القصرين، كمناطق حمراء. هذا إضافة إلى مشاكل تسويق البضاعة الفلاحيّة الّتي ينتجها باعثو القطاع الفلاحيّ في القصرين.


أمّا بخصوص القطاع السّكنيّ، فقد أكّد الدخيللي أنّ المعدّل السّنويّ لإسناد رخص البناء، من إدارة التّجهيز، هو في حدود 550 رخصة.


من ناحية أخرى، أرقام إدارة التّنمية تثبت أنّ النّسيج الصناعيّ والخدماتيّ ضعيف جدّاً، في القصرين، فمعدّل المشاريع المنجزة فيها، لا تتجاوز الـ 20 مشروعاً سنويّاً بمبلغ جمليّ لا يتجاوز 15 مليون دينار، وبطاقة تشغيليّة تتراوح بين 200 و250 فرصة شغل... وما خلق 3 مشاريع فقط، منذ ما قبل سنة 2011 إلى حدود سنة 2022 ، إلاّ دليل قاطع على ما يكابده جزء كبير من القطاع الخاصّ في ولاية القصرين، من بؤس.


وجال رئيس مصلحة متابعة الاستثمار الخاصّ في إدارة التّنمية بالقصرين، في جملة العوائق الّتي تلاحق هذه القطاعات، وأهمّها: تجاوز قيمة الأموال المتداولة من قبل الباعث بين الدّراسة والدّخول في طور الإنجاز والمشاكل الماليّة المرافقة لذلك، خصوصاً مع تأخّر منح الإنتاج...

المؤسّسات الماليّة على الخطّ...

أجمعت جلّ التّصريحات على أن المؤسّسات البنكيّة تتحمّل جزءّا من مسؤوليّة فشل جلّ المبادرات في القطاع الخاصّ، خصوصاً، تلك المتعلّقة بالباعثين الشبّان، الّذين يدخلون مجال خلق المؤسّسات وريادة الأعمال دون سند ماليّ يعيلهم على تجاوز صعوبات هيكليّة وأخرى عرضيّة. 


بدوره، دعا الإطار البنكيّ رياض المحمدي، المؤسّسات البنكيّة إلى تحمّل مسؤولياتها في مجال الاستثمار في جهة القصرين، لخصوصيّة الجهة الّتي تحتاج تحسين النّسيج الاقتصاديّ داخلها.


وأشار إلى أنّ القطاع البنكيّ قد تحسّن في الجهة، بعد سنة 2011، وما عليه إلاّ مدّ يد المساعدة إلى الباعثين والمستثمرين.


من جهة أخرى، لفت إلى ضرورة تجديد أفكار المشاريع من قبل الباعثين، وشدّد على أنّ الولاية تعيش على وقع "أزمة أفكار مشاريع"، ليركّز على أهميّة ترسيخ  عقليّة الشّراكة داخل المؤسّسات، معتبراً أن جلّ المشاريع الّتي بُعثت في الجهة، هي شَركات الشّخص الواحد أو شركات عائليّة، وتعتبر في أغلبها "مشاريع مكرّرة، تعيد نفسها".


وانتقد من جانبه، بطء الإجراءات الإداريّة في مجال الاستثمار وتلك التّرسانة القانونيّة المتخلّفة الّتي تحيط بها، وفق تعبيره.


وقال الخبير البنكيّ، في تصريحه لموزاييك، إنّ غياب المعلومة أيضاً، قد يعرقل نجاح عدد من المشاريع. قد تُفتح، في مواضع عديدة، خطوط تمويل دوليّة، دون أن يتمّ التفطّن إليها من الباعث في ولاية القصرين، وهو ما يُلغي فرصة تمويل ناجزة وناجعة.


وأشار إلى إشكاليّات أخرى أهمّها الشّروط البنكيّة لتمويل المشاريع، ومنها تلك الضّمانات العينيّة الّتي لا يمتلكها الباعث الشّاب، في أغلب الأحوال.

 

تشبيك مؤسّسات الدّعم..بنك الجهات ورقمنة الاستثمار..هل هي الحلّ؟

 

من جانب آخر، شدّد الخبير في التّنمية، وممثّل وزارة تكنولوجيا الاتّصال في التّنمية الجهويّة بالقصرين نوراني نصري، في تصريحه لموزاييك، على أهميّة تشبيك مؤسّسات دعم الباعثين ومرافقتهم في الجهة، لتسهيل الإجراءات، ولتخطّي البيروقراطيّة الّتي تعتبر أولى العقبات الّتي تقف حجر عثرة، أمام خلق الثّورة ونجاح المؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة في ولاية القصرين.


ودعا إلى أهميّة بعث "بنك الجهات"، لتجاوز عوائق تمويل المشاريع، وما يرافقها من تداعيات على كيان المؤسّسة، وعلى مستقبل الباعث.


وأشار إلى أهميّة التوجّه نحو الاستثمار في المؤسسّات النّاشئة، عبر محاولة الدّخول في عوالم تطبيقات الهواتف الذّكيّة، وبقيّة المجالات المجدّدة في تكنولوجيا الاتّصال، لما توفّره من تشجيعات، ومن أسواق لا محدودة. وختم قائلًا:"لقد حان وقت رقمنة الاستثمارات في تونس، عبر آليّات عديدة، أهمّها إعادة تأهيل جلّ الاختصاصات..."

مجال استثمار للأثرياء ومجالات أخرى لمن لا سند له

قبل هذا كلّه، وبعده، وببحثنا في كلّ ما يحيط بالقطاع الخاصّ في ولاية القصرين، وفي مسار ريادة الأعمال، كانت الاستنتاجات واضحة؛ أولّها، أن سياسة الدّولة تجاه الجهات الدّاخليّة، وولاية القصرين خصوصاً، لا تزال متشبّثة بالمركزيّة الّتي تخلّف بيروقراطيّة قد تقتل الأحلام في مهدها. ثانيها، تلك السّياسات ذاتها، تشجّع على الاستثمار، وتعيقه، في الآن نفسه، وفي مناسبات عديدة. ثالثاً، النّسيج الاقتصاديّ الخاوي على عروشه، خلق نوعين من المشاريع، استثمارات للأثرياء في مجال البناء: منازل وشقق، وعمارات، لا قيمة مضافة لها، لكنّها مربحة، وقطاعات أخرى، لا محدودة، لباعثين شبّان لا سند ماليّ لهم، تنتهي بهم في معظم الأحوال، على عتبات السّجن...

 

برهان اليحياوي