'لا للسلطان ولا للقطيع': هشام جعيّط..أو حين يكتب المؤرخ بلا خوف !
''إبن عائلة ارستقراطية موسّعة تضم قضاة وعلماء ومسؤولين كبار، نشأ واشتد عوده بين الربض الشمالي و"باب سويقة" وأجوائه في ثلاثينات القرن الماضي، عرف الحبيب بورقيبة منذ الصبا وكان يصفه ''بابن الحي''.. فتح عينيه على أم ترتدي لباسا عصريا لا تونسيا، وترعرع في منزل العائلة الكبير أين يقرؤون الجرائد ويستمع الجد إلى الراديو، ويملكون مكتبة خاصة بالعائلة.. هكذا نشأ هشام جعيط وهذا ما كان شديد التأثير على رسم فكره ومسار حياته''
بهذه الكلمات وغيرها يصف المؤرخ لطفي عيسى حياة المفكر والمؤرخ التونسي الاستثنائي، خلال استضافته في برنامج ''واحد من الناس''. حوار ركّز على حياة ودراسة المؤرخ والمفكر هشام جعيط، واستكشاف كيفية تأثير تعليمه وبيئته الأسرية الدينية على تفكيره، وقدرته من خلال كتاباته القيّمة على إعادة بناء تاريخ الإسلام من وجهة نظر كونية، والابتعاد عن السرد التقليدي السطحي، وقدرته على مصالحة المتضادات، على غرار اعتماده على منهجيات التأريخ الغربي والاستشراقيّ التي انتقدها في الآن ذاته.. كما تناول هذا الحوار التحديات التي واجهها جعيط في حياته الأكاديمية وعلاقاته المعقدة مع السلطة السياسية في تونس.
"نشأة نخبويّة في حضن الزيتونة"
وُلد هشام جعيّط في 6 ديسمبر 1935 بتونس العاصمة، في عائلة وُصفت بأنها تطورت تدريجيًا من عائلة من الأعيان إلى طبقة أرستقراطية حضرية في تونس. جدّه لأبيه هو الوزير الأكبر يوسف جعيّط، أحد أبرز الشخصيات السياسية في تونس خلال الحقبة الحسينية، وعمه هو الشيخ محمد عبد العزيز جعيّط، كان أول مفتي للبلاد التونسية عيّنه الحبيب بورقيبة بعد استقلال البلاد. أما والده، فكان من شيوخ جامع الزيتونة، وحرص على حصوله على تعليم جيد. والدته تنتمي إلى عائلة البيروم (حنفيون مفتونون من أصل تركي) كانت ترتدي الملابس الحديثة وتتناول الطعام بالشوكة والسكين..
''هذا ما أتاح له نشأة في بيئة علمية ودينية خاصة كان تأثيرها كبيرا جدا على مسيرته، وان كانت مسيرة خطّها 'انقلاب' بالمعنى الثقافي والفكري'' وفق تعبير ضيفنا لطفي عيسى. ويتابع قائلا ''سنحت له الفرصة لينهل من أكبر الأدباء العرب وسردياتهم لنشأة الإسلام، ومن ثمة نهل في فرنسا حين سافر لها ليواصل تعليمه، من كبار المستشرقين، ثم نقدهم.. نجح جعيط في بناء جانب من المصالحة بين التناقضات''.
وعن شخصيته وإصراره ونضجه المعرفي، عاد ضيفنا على مسيرته الأكاديمية، إذ تلقى جعيّط تعليمه الثانوي في المدرسة الصادقية، ثم واصل دراسته العليا في فرنسا، حيث حصل على شهادة التبريز في التاريخ عام 1962، ثم نال دكتوراه الدولة في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون عام 1981. وهي مسيرة طويلة زمنيا، خاصة وأنه اجتاز مناظرة التبريز للمرة الأولى في فرنسا ففشل فاجتيازها شابا، وكان حينها قد أصيب بإشكاليات صحية أجبرته على العودة إلى تونس. "لكنه لم ييأس ولم يقنط، وعاد ليجتازها بعد سنوات ونجح. كما أنه قضى عشرين عاما في إكمال أطروحة الدكتوراة، وذلك ليس تقصيرا أو كسلا، بل لأنه كان فاتحا لجبهات عديدة في الوقت ذاته، دراسة وكتابة وبحث وتدريس..'' يعلّق لطفي عيسى.
مفكر على الحافة: جعيّط وجمع الأضداد بلا تنازل
حرقه سؤال ''لما لا يدرس الإسلام كظاهرة تاريخية؟'' وخلافه مع الاستشراق كان ذي معنى. انطلق من كتابات فكرية، أعد لها جيدا. تميّز جعيّط بمنهج نقدي في دراسة التاريخ الإسلامي واستخدم أدوات متعددة من الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، وعلم الأديان، لتقديم قراءة عقلانية للتاريخ الإسلامي. ركز في أعماله على فترات حساسة من التاريخ الإسلامي، مثل بدايات الدولة الإسلامية وفترة الأمويين والعباسيين، كما تناول قضايا معاصرة تتعلق بالهوية والثقافة الإسلامية. وكان في كتابته مجذّرا لفكرة أن ''الفضاء الإسلامي هو من حمى أوروبا من المغول والتتار'' على حد تعبير ضيفنا.
إذ يشير جعيط في بعض أطروحاته إلى أن الفضاء الإسلامي لعب دورًا حاسمًا في حماية أوروبا من الغزو المغولي والتتاري، وهو رأي يستند إلى فهمه العميق لتاريخ التوسعات المغولية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر. فالمغول استُنزفوا في حروب طويلة مع الخلافة العباسية والدويلات الإسلامية في فارس والشام ومصر. هذه المقاومة ساعدت على تفتيت قواتهم، خصوصًا بعد هزيمتهم في "عين جالوت"، مما أوقف تقدمهم نحو حوض البحر الأبيض المتوسط...كما يرى جعيط أن الحضارة الإسلامية في المشرق شكلت حاجزًا حضاريًا وعسكريًا منيعًا منع انهيار أوروبا في وجه الغزو الآسيوي.
المفكّر الذي لم يتزلّف ولم يهادن
"طلب منه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أن يكتب مذكراته، فتهرّب بطريقة لبقة. وهو ما جلب له مشاكل عدة.. وبعدها عاقبه نظام بن علي بسبب استقلاليته الفكرية فأقصي من التدريس في الجامعة التونسية ولم يُقبل طلبه التمديد في التدريس بعد بلوغه سن التقاعد.. وهي كان رب ضارّة نافعة.. إذ تفرّغ للكتابة..'' يتحدث المؤرخ لطفي عيسى.
وتشير المصادر، إلى أن جعيط تهرّب من طلب غير مباشر من الرئيس بورقيبة لكتابة سيرته الذاتية. ففي منتصف الستينيات، أُعجب بورقيبة بأفكار جعيط بعد استماعه إلى حديث إذاعي له، وعبّر عن رغبته في أن يكتب جعيط، قائلاً: "يِلزِمْ هذا الشاب يكتب.. دَعه يكتب.. عنده أفكار..". واستجابةً لذلك، مُنح جعيط فرصة للتفرغ للبحث والكتابة، مما أدى إلى إنتاجه دراسة علمية عن تاريخ أفريقية الإسلامية. ومع ذلك، لم تُطلب منه كتابة سيرة بورقيبة الذاتية بشكل مباشر، بل تم تشجيعه على الكتابة والبحث بشكل عام. لاحقًا، توترت العلاقة بين جعيط والنظام البورقيبي، خاصة بعد نشره مقالة نقدية بعنوان "الوصوليون وصلوا" في أبريل 1967، والتي انتقد فيها الانتهازية والبيروقراطية في النظام.
بعدها، كانت علاقته بنظام الرئيس زين العابدين بن علي متوترة ومبنية على الجفاء، نتيجة لمواقف جعيّط النقدية واستقلاليته الفكرية مرة أخرى. واستمرت السلطة في تهميش جعيّط خلال فترة حكم بن علي، حيث تم استبعاده من التكريمات الأكاديمية، ورفضت السلطات التمديد له بعد بلوغه سن التقاعد، رغم مكانته العلمية المرموقة. توتر بين هذا الرجل والأنظمة، عكس تمسّكه باستقلاليته الفكرية ورفضه التقرب من السلطة..
لم يكن هشام جعيّط مجرّد مؤرّخ عابر في سجل الثقافة العربية المعاصرة، بل كان ضميرًا فكريًا يقظًا وجريئا، شقّ مسيرته بين جدران الصرامة الأكاديمية ونبض السؤال الوجودي. كما لم يكن مشروعه في كتابة تاريخ الإسلام مجرد تمرين أكاديمي معزول، بل مواجهة معرفية شجاعة مع المقدّس، سعى من خلالها إلى تحرير الوعي الإسلامي من رواسب التقديس الأعمى. وظل جعيّط إلى جانب كل ذلك، مستقلاً عن كل الأنظمة الحاكمة، دون أن يغويه جاه السلطة أو يسجنه ولاء إيديولوجي...
أمل الهذيلي