languageFrançais

'حين رأيتك':عُري الأفكار وصراخ بالمسكوت عنه فوق خشبة المسرح

في الخارج، وقبل أسابيع مضت، أعلم أعوان الأمن إدارة المسرح الوطني بوجود تهديد محتمل للقاعة وللعاملين بها ولجمهورها من طرف "متشددين" و"تكفيريين" استفزهم عنوان مسرحية أخرى بدعوى استعمالها "القرآن الكريم" ضمن ملصق اشهاري يحمل صورة "لا أخلاقية".


وفي الداخل وضمن أيام المسرح الوطني التونسي بقاعة الفن الرابع، كان عرض عمل مسرحي بدا عنوانه عاديا، لكن الصورة المرافقة له بدت لأولئك أيضا مستفزة بدورها، في حين كان العمل مسرفا في الجرأة والصدق.

بسيل من القبل ومشاهد الوله والشوق، اختار المخرج "صالح الفالح" افتتاح عمله "حين رأيتك" الذي عرض أمس الأربعاء 19 أفريل 2017. مشاهد سينمائية بالأبيض والأسود جلسنا أمامها مرارا في شاشات السينما، ودعاها المخرج إلى الركح ووضع أمامها مشاهدة وحيدة تدخّن سيجارة وتتأمل المشهد تلو الآخر في صمت، ثم ينطلق سيل الكلام والأفكار والصراعات التي يخيّل إليك أنها لن تنتهي، ومحورها واحد من أهم التابوهات التي تقضّ مضاجعنا ونتجنب الخوض فيها: العلاقات الجنسية، المجتمع والجسد، الجنس والسياسة، الدولة والحريات الجنسية... وهي أفكار يعرّيها الممثلون فوق الركح ويعرّون أنفسهم وقلقهم معها، بعيدا عن المغالطات والمهادنات وإختيار الألفاظ والترميز والتشفير، فصالح الفالح كان مسرفا في الوضوح والمباشرتية وألقى سيل كل تلك الأفكار في وجه الجمهور بلا شفقة. وهو ما يبدو أثره واضحا على وجوه المتفرجين من صدمة وامتعاض أحيانا وقلق واضح، فالعمل لا يجيب على تساؤل أو يسرد حكاية بالمعنى المألوف للخرافة ومقوماتها، هو يثير نقاط الإستفهام والتعجب ويترك للمتلقي خيار الذهاب بها إلى آخرها أو الهرب منها.
المشكل ينطلق مع أستاذ جامعي يعاني حياة زوجية واقعية برتابتها وبرودها بعد عشر سنوات وإنجاب لطفل وحيد. الزوجة صحفية تركت عملها وتفرّغت لابنها ولمنزلها وأهملت في كل ذلك ذاتها، في حين تفرّغ الزوج لطلبته ولهروبه وسُكره. العلاقة الجنسية المتلاشية وشبه المنعدمة كانت أساس المشكل، وجدار الصمت بينهما الذي بنته النواميس والتقاليد و"العيب" عمّق الهوّة بينهما وجعل كلا منهما يعاني وحيدا. طلبة الأستاذ الجامعي الذين يجرون بحثا حول العلاقات الجنسية والعاطفية في المجتمع التونسي، كانوا بدورهم حكايا مستقلة بذاتها وكل منها عيّنة لوحدها ولا فرصة كبيرة لها لتقديم حياتها وهمومها كاملة، كلّ وخيباته وعقده وأمراضه وماضيه وألمه، يلقيها في وجه الكاميرا التي كانت تجوب فوق المسرح، والتي تستدير في لحظة مفاجئة لتصوّر الجمهور وتسلط الضوء عليه فيما يلقي أحد الطلبة خطابا غاضبا عن الكبت و"الطبقية الجنسية" و"لا انسانية الإنسان" و"المجتمع الشرطي"..
الجرأة لم تكن في الأفكار فحسب، بل في المشاهد أيضا: طالب وطالبة يتبادلان القبل الحميمية على حافة المسرح في مشهد يدوم لدقائق، ويخوضان في المقابل حوارا مُغرقا في السياسة ومحمّلا بالانتقادات اللاذعة للدولة والقوانين، بدلا عن حوار حميمي مفترض ويتناسب مع اللحظة..
المخرج أكّد أن العمل المسرحي مفتوح وغير نهائي وقابل للتطور والإختلاف، كما اعتبر أنه لم يسع من خلال العمل إلى إرضاء المتفرج بل إلى الحفر في قلقه وحيرته الكامنة، وأوضح أن الابتعاد عن الآداء المستهلك والكلاسيكي والتوجه إلى البساطة والمباشرتية كان إختيارا مسؤولا وواعيا. في حين يبقى السؤال، حول مدى احتمال هذا العمل للانتقادات الأخلاقوية التي طالته وستطاله، وهل بإمكانه أن يحافظ على جرأته وقوامه في حال تنقل إلى الجهات ومسارح "الداخل"؟

أمل الهذيلي