languageFrançais

عندما يمتزج التاريخ بطيبة الأهالي.. فاعلم أنك في الكاف العالي (صور)

This browser does not support the video element.

أسدل الستار منذ أيام على مهرجان ''سيكا جاز''، انتهت التظاهرة التي ارتبط إسمها بـ'الكاف' ولم ينته أثر الفنون التي أحيت المدينة ليالي وأياما، ولا ذهب أثر "سيكا فينيريا'' الرابضة فوق جبل الدير منذ قرون.

قد تكون الصدفة هي التي حملتني لأزور هذه المدينة التي تبعد 160 كم عن العاصمة والمشيّدة فوق آثار رومانية، هناك اكتشفت كيف لمباني وجدران ومعالم أن تمنحك شعورا بالسلام والطمأنينة منذ أن تطأها قدماك، تماما كما لو كنت تزورها للمرّة المائة.

تنطلق في جولتك الاستكشافية، تمرّ بين الأهالي متطلعا على المنازل والأزقّة ذات الطابع المميّز، فتستشعر فضولا لطيفا في نظراتهم بلا إزعاج أو صفاقة، هناك لا أحد يسألك "ماذا تفعل هنا أو من أين أتيت؟"، تراهم يبتسمون لك بلطف، ترحيبا ويمضون في حال سبيلهم، فتتلاشى وجوههم وتحتفظ ذاكرتك بتلك الابتسامة الخفيفة.

في الكاف، إن استفسرت أحدهم عن شيء ستتهلّل أساريره، سيقف وينظر إليك مليّا قبل إجابتك...لا تجزع إنه يفكّر في طريقة لمساعدتك لا غير.. لن يضجر من أسئلتك التي تبدو سخيفة في بعض الأحيان، حتى أنّه قد يغيّر طريقه لأجل إيصالك إلى وجهتك وان كان على عجلة من أمره، مردّدا "إنت ضيف وما عندي حتى مزيّة".

في الكاف، الحياة تسير ببطء جميل فلا شيء يدعو أهلها إلى العجلة، ولن أبالغ إن قلت أنّه لا صوت لمنبّهات السيارات في هذه المدينة، وذلك ليس احتراما لقواعد السير بل ببساطة لأنهم يملكون سعة صبر لافتة وشديدو الكره للضجيج الذي اعتادت عليه آذاننا نحن سكان العاصمة.

هنا، الجميع في علاقة وثيقة مع الهدوء والبساطة، حتى يخيل إليك أنّ يومهم أطول من المعتاد، لأنهم لا يركضون وراء الحياة العصرية المرهقة، وقد حدثتني إحدى النساء عندما سألتها عن ذلك "الأمر بسيط فمنطق الحياة معاكس لما نخاله.. إن أنت ركضت خلفها لاهثة فستهرب الأشياء منك، وإن أقنعت نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، ستأتيك هي لاهثة لا محالة فلما العجلة ؟".. 

 

 

في الكاف، يجد الناس وقتا لتبادل تحايا الصباح والسؤال عن أحوال جيرانهم وأصدقائهم، ليس بهدف "النميمة" إنما للاطمئنان على بعضهم، حتى لا يجد فيهم أحد نفسه وحيدا يوم مرض أو حاجة، تراهم يرتبّون أولوياتهم منذ الصباح الباكر لتخصيص "العشويّة" لشرب فنجان "قهوة دزيريّة"، فيسرقون من الزمن ساعة لتبادل الهموم لأنّ الهاتف والفايسبوك لم يُجعلا  لذلك حسب تقديرهم. 


إن حللت ضيفا على سكان مدينة الكاف أو "سيكا فينيريا" كما كان يطلق عليها قديما نسبة لفينوس آلهة الحب والجمال، فاعلم أنّك ستكون مبجّلا أينما حللت سواء في مقهى أو مطعم أو أيّ محلّ تتجه إليه، ولا تستغرب إن أكرموا ضيافتك ليس تملّقا أو بهدف عودتك، بل تلك طبيعتهم مع "البراينيّة".

وفي الكاف أيضا، لن يكون مسموحا لأحد أن يزعجك أو يضايقك لأنك "غريب" عن الديار، هناك يتجنّد الجميع لدفع كل أذى عنك ولن تجد نفسك محرجا أو ينقص شعورك بالأمان بينهم.

 

 

تلك الصدفة جعلتني أكتشف "الكاف العالي" الذي بقي عصيّا على جنون التمدن بفضل مخزونه التاريخي المتراكم، هذه المدينة الأثرية التي أسّسها البربر وتعاقبت عليها الحضارات من العصر الحجري إلى العهد العثماني مرورا بالعهد الروماني فالبيزنطي .. وصولا إلى العربي الإسلامي، جولة صغيرة في ''الصبّاط'' تشعرك أنّ من مرّوا هناك يجلسون حذوك وأن التاريخ بتفاصيله على قارعة الطريق، لست تحتاج تذاكر ومتاحف حتى تلامسه يكفي أن تجيل بصرك في المكان. 

في الكاف، لكلّ حجر تاريخ ولكلّ معلم رواية تستفزك ويدفعك الفضول لاكتشافها ومعرفتها والإطلاع عليها، عندها عليك فقط عليك أن تنصت بعين مغمضة وتتابع شريط الأحداث المتعاقبة التي تتوقّف بك فوق قصر "القصبة الحسينيّة".

 

 

"القصبة"... وكيف يمكنك أن تكتب عن الكاف، دون أن تخطّ جملا عن هذا المكان، وليس كمن سمع رأى، إن الوقوف ردهة من الزمن في هذا المعلم المهيب المطل على المدينة بأكملها بمساجدها وصوامعها ومبانيها الناصعة البياض.. والمواجه لجبل 'الدير'' الشاهد والحامي للمدينة الساحرة الآمنة رغم كل شيء، سيجعلك تشعر بعظمة هذا الصرح المشيّد. 

هنا، تقف الكاف بكل جمالها وأنفتها، محافظة على عاداتها وتقاليدها، فلا هي تشتكي الخوف ولا تطلب حماية، بل تواصل حياتها التي تعجّ حراكا ثقافيا وفكريا وكأنها في حصن لا يقع، وفي الحقيقة حصن هذه المدينة هم سكانها.

 

*أميرة العلبوشي*
 

share