languageFrançais

'بلاد الآبار' معرض يوثّق مشروع إحياء تراث مائي مهدّد في صحراء تونس

This browser does not support the video element.

بشغف واضح، قدّم المهندس المعماري حامد كريوان لممثلي وسائل الإعلام تفاصيل معرض "بلاد الآبار"، المقام بقاعة العرض «32 Bis» وسط العاصمة التونسية. هذا المعرض ليس مجرد استعراض فني، بل هو توثيق بصري لمشروع ميداني أُنجز في عمق الصحراء التونسية، ويُعنى بإعادة تأهيل "بئر الطين" المهجورة. 

المشروع يمثّل خطوة رمزية أولى قد تكون دافعا لمبادرة أوسع لإحياء عشرات الآبار القديمة في منطقة تُعرف بـ"بلاد الآبار"، الممتدة من نفزاوة قرب الحدود الجزائرية إلى جبل الظاهر.

المعرض يضمّ أعمالًا فوتوغرافية التقطها المصوّر محمد كيليطو، توثّق منشآت مائية تقليدية  تمّ اكتشافها في قلب الصحراء. كما تضمن خارطة أرضية واسعة توضح مواقع مئات الآبار التي شملها الاستكشاف، إلى جانب عرض أدوات  استخدمها الرحّل في خزن واستغلال الماء. 

وقد تمّ تصميم هذا الفضاء ليقدّم للزائر تجربة حسّية تستحضر حياة البدو الرحّل، كما عاشها على مدى ثلاث سنوات ثلاثي من المعماريين: منير أيوب، فانيسا لاكاي (من جنيف)، وحامد كريوان (من تونس)، خلال بحثهم الميداني في الصحراء التونسية.

ولتعميق التجربة، يتضمّن المعرض عرضًا سمعيًا بصريًا يوثّق مراحل إعادة تهيئة "بئر الطين"، بمشاركة سكان محليين، معظمهم من البدو الذين غادروا حياة الترحال. كما يسلّط الضوء على التحوّل الذي شهده استغلال الموارد المائية في الصحراء، بفضل التكنولوجيا الحديثة والطاقة الشمسية، ما ساعد على خلق أنماط عيش مستقرة. 

غير أن سوء التصرف في هذه الموارد وغياب الإرشاد العلمي أدّيا إلى مشاكل بيئية موثقة في المعرض، كمؤشر يستدعي تدخلًا من السلطات المعنية لإعادة تنظيم استخدام المياه.

في هذا السياق، أشار كريوان إلى مشروع "قرية المُحدث" الجاري تنفيذه في منطقة الفوّار، وهو يهدف إلى توطين العائلات من خلال توفير بئر ارتوازية لري ضيعة لانتاج دقلة النور، حيث تُمنح كل عائلة قطعة أرض إلى جانب دعم مالي، ما يشكّل نموذجًا اقتصاديًا محليًا قائمًا على الماء.

ويعود أصل فكرة المشروع إلى رحلة دراسية لطلبة هندسة معمارية من جنيف، كانت تهدف إلى دراسة أسلوب عيش الرحّل واستغلالهم للفضاء الصحراوي. غير أن هذه الرحلة قادت إلى اكتشاف كنز من المعلومات حول منظومة الآبار القديمة التي شكّلت عماد الحياة في هذه المناطق. ومن هنا، بدأ المشروع يأخذ طابعًا معماريًا وإنسانيًا أوصل إلى ترميم "بئر الطين"، الواقعة على بعد نحو 40 كيلومترًا من الفوّار والصابرية.

وقد تبيّن من خلال العمل الميداني أنّ المنطقة تحتوي على شبكة معقّدة من الآبار، تعود أصول بعضها إلى قرون مضت. لكن معظم هذه الآبار اليوم إمّا طمرتها الرمال أو جفّت، بسبب غياب الصيانة أو تراجع عدد مستخدميها، ما يهدّد باندثار مورد أساسي لحياة البدو ومواشيهم. وقد أدى هذا الوضع إلى تغيّر في حركة الجِمال التي باتت تقصد القرى بحثًا عن الماء، مسبّبة أحيانًا أضرارًا للمحاصيل الزراعية.

من هنا جاءت مبادرة ترميم "بئر الطين" كمشروع رمزي يهدف إلى توفير نقطة تجمع للبدو الرحّل، والمساهمة في الحفاظ على هذا التراث المائي المهدّد بالاندثار. وأشار كريوان إلى أن أغلب الآبار المكتشفة تحمل أسماء أشخاص، يُعتقد أنهم من حفرها أو أشرفوا على إنشائها.

العمل الميداني مكّن الفريق من رسم خارطة دقيقة لمسارات الآبار، التي تحدّد فعليًا خطوط تنقّل البدو، إذ لم تكن هذه الآبار مجرد مصادر للماء، بل مراكز حياة تنصب حولها الخيام، وتُؤسس فيها أنماط معيشية دقيقة تراعي تقلبات الطقس الصحراوي. 

وقد كشفت الملاحظة الدقيقة عن تخطيط هندسي واضح في مواقع الآبار، يعكس تراكمًا معرفيًا لدى الرحّل في كيفية تدبير الفضاء وتوزيع الموارد، وإن تمّ ذلك دون وعي نظري بماهية "الهندسة".

وفي ختام حديثه، أكّد كريوان أن مشروع "بئر الطين" لا يدّعي إعادة إحياء الصحراء بأكملها، بل قد يمثّل لبنة أولى ضمن مشروع أكبر تتكامل فيه جهود الباحثين والسلطات، لإحياء منظومة المياه القديمة باستخدام تقنيات حديثة تراعي خصائص البيئة والمجتمع. 

تغطية صحفية : شكري اللّجمي

share