languageFrançais

فقدت أبناءها الثلاثة في فاجعة 'القوارص'..الهذبة تحكي أوجاع جهة بأكملها

تجلس وراء كوخها الصغير تلامس ما تبقى من الحشايا حينا، وتتأمّل الأدباش المعلّقة على أوتاد وأغصان شجيرات متناثرة هنا وهناك وعيناها تذرفان الدمع حرقة على أبنائها الثلاثة التي فقدتهم جميعا على حين غرّة..

الثكلى الهذبة الشيحاوي  كانت مجبرة على تجاوز صدمة الفاجعة التي حلّت بها وبعائلتها، لتسرد ما تعلّق بقساوة ظروف عيشها وعيش أجوارها في منطقة تعاقبت الحكومات على تجاهلها منذ الأزل، وهو ما اعتبرته سبب رحيل فلذات كبدها بتلك الطريقة.. 

تمتمت وتلعثمت وتنهّدت قبل أن تتسطيع النطق بكلمات تعبّر عن حجم ألمها ومأساتها، قائلة "أبنائي.. نور عيوني.. لم يقدروا على تحمّل أوجاعهم التي تمزّق أوصالهم بعد تناولهم كمية من مادة "القوارص" التي دأبوا عن شربها ظنا منهم أنها ستنسيهم الواقع المرير..'' وماذا كان في وسع هذه الأم فعله لإنقاذهم خاصة أن المكان الذي تقطن فيه لا تتوفر فيه أدنى سبل لذلك، وبقيت الهذبة حائرة لا حول لها ولا قوة إلى حين مرور عربة بالقرب من كوخها القديم طلبت من سائقها بإلحاح  نقلهم إلى أوّل مستشفى يبعد مسافة فاقت العشر كيلومترات، عبر مسلك وعر مليء بالحجارة والحفر... 

عملية نقلهم لم تجد نفعا حيث ساءت حالتهم ولفظوا أنفاسهم الواحد تلو الآخر بين مستشفيين أحدهما محلي والآخر جهوي، ولم تتوفّر في كليهما أدنى مستلزمات الإسعاف خاصة منها أجهزة للتنفس الاصطناعي التي كانت ضرورية لإنقاذهم...

لا تتوفّر بالمناطق الحدودية بين ولايتي سيدي بوزيد والقيروان المتاخمة على جبل "الابيّض" أدنى مقوّمات الحياة كغياب الماء الصالح للشرب والمرافق الضرورية، مما زاد الوضع سوء مع تسجيل ارتفاع كبير في نسبة البطالة والفقر إلى جانب العدد الكبير للمنقطعين عن الدراسة بسبب عدم توفّر حافلات لنقلهم إلى المؤسسات التربوية البعيدة والمسالك الوعرة، وما تزال معتمدية حاحب العيون مهمشة ومحرومة من عديد المرافق والخدمات وتردي البنية التحتية ويعاني سكانها الفقر وغياب المشاريع التنموية.

تفاقم حجم الفقر في القيروان وازدادت حدته بعد الثورة واحتلت الولاية المرتبة الأولى على المستوى الوطني بنسبة 34.9 بالمائة ونسبة الفقر المدقع ب10.3 بالمائة مع غياب استراتيجية واضحة للدولة من أجل النهوض بهذه الولاية..

مثلما فقدت الهذبة أبنائها الثلاثة، ودّعت أربعة عائلات أخرى أبنائها نتيجة تناول نفس المواد السامة بعد احتسائهم "القوارص" وفقد شابان بصرهما وأصيب أكثر من ستّين شخصا بأعراض وأوجاع لم تقدر مستشفيات الولاية على استيعابهم مما استوجب الأمر توزيعهم على المستشفيات الجامعية والجهوية بثماني ولايات أخرى لعلاجهم وتخفيف آلامهم..

حادثة "القوارص" كشفت هشاشة الوضع الصحّي وضعف مؤشر التنمية بالجهة وخلّفت مآسي متنوّعة ومعاناة متعدّدة، فهل ستجبر هذه الكارثة الدولة على الاستفاقة من سباتها وتنهض بهذه الربوع حتى لا يعيش حفيد ''الهذبة'' (رضيع أحد الضحايا) نفس الواقع المرير الذي عاشه والده؟

خليفة القاسمي