languageFrançais

حين تفقد المدينة روحها: هل ما زال للإنسان مكان في التخطيط الحضري؟

في مدن تتسارع فيها وتيرة الإسمنت وتُبنى فيها الأحياء وفق خرائط ''جافة'' تخلو من العاطفة والذاكرة، تُطرح أسئلة جوهرية: لماذا تبدو مدننا المعاصرة بلا روح؟ ولماذا يشعر كثيرون في تونس، لا سيما في العاصمة، بأنهم غرباء داخل فضاءاتهم اليومية؟

طرحت المخططة العمرانية إقبال دريدي خلال استضافتها في برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس، تشخيصًا جريئًا لهذه الإشكالية، داعية إلى إعادة التفكير في الإنسان على اعتباره "محورا مركزيا للتخطيط الحضري".

''المدينة كيان حيّ لا مجرد كتلة إسمنتية''

بالنسبة إلى الدريدي، المدينة التي لها "روح" ليست مجرد مجموعة مبانٍ منظّمة على الورق، بل هي كائن حيّ ينبض بالذاكرة والعاطفة والانتماء. إنها تُحسّ وتُشمّ وتُسمع: في نداء المؤذن، ورائحة التوابل في الأسواق، وصوت الحرفيين، وذكريات الناس الذين مرّوا من هناك... والمدن القديمة، على بساطة عمرانها، تُقدّم مثالًا على هذا النوع من الانسجام بين الإنسان والمكان. أما المدن الجديدة، المبنيّة وفق منطق الوظيفة (سكنية، صناعية، إدارية)، فإنها تفتقر إلى الترابط والتجانس، ما يخلق فيها شعورًا بالغربة والفراغ.

أزمة التخطيط: "مدينة للرجل القوي بسيارته"؟

تنتقد ضيفتنا المهندسة العمرانية إقبال الدريدي بشدّة التصورات النمطية التي تُبنى عليها مدن اليوم في بلادنا. إذ تُصمّم غالبًا كأنها موجّهة لرجل "قوي" يمتلك سيارة، في تغييب تامّ لاحتياجات النساء، وكبار السن، وذوي الإعاقة. وتتساءل هنا: ''هل فكّر أحدهم في إضاءة الشوارع ليلاً لضمان أمان النساء؟ أو في كراسٍ يستند إليها المسنّون؟ أو في منحدرات تمكّن الكراسي المتحرّكة من النفاذ إلى الفضاء العام؟''

وتخلص الدريدي إلى أنه ''حين يُقصى الإنسان المختلف، يُنتَج "عنف عمراني" يجعل من المدينة فضاءً قاسيًا، لا يحتضن سكانه بل يطردهم نفسيًا واجتماعيًا'' على حد توصيفها.

وترى الدريدي أن الحل لا يكمن فقط في تغيير القوانين، بل في تغيير المقاربة برمّتها. إذ تقول إن التخطيط لا يجب أن يكون مجرد تمشّ إداري مُسقَط من فوق، بل عملية تشاركية تنبع من الناس أنفسهم، من احتياجاتهم، ذاكرتهم، وتصوراتهم.
من أجل ''عدالة مجالية وروح إنسانية''

العدالة المجالية، كما تعبّر عنها دريدي، تعني إعادة الحق في المدينة لمن تم تهميشهم: الفقراء، النساء، ساكنو الأطراف. وتقول ''المدينة لا يجب أن تكون امتيازًا، بل فضاءً يحتضن الجميع''. وحتى تعود للمدينة روحها، يجب أن تُبنى بما يجعل ساكنها يشعر بالأمان، بالطمأنينة، الانتماء، وبأنّه مرئي ومسموع ومأخوذ بعين الاعتبار.

''في نهاية المطاف، لا تُقاس المدن بجمال عماراتها، بل بمدى شعور الإنسان فيها بأنه في بيتٍ له، لا غريبا عنه'' تشدد متحدثتنا.

مدينة تُشبهنا

التخطيط الحضري، بحسب دريدي، ليس رفاهًا ولا مجرد هندسة، بل فعل ثقافي وسياسي وأخلاقي، و''علينا أن نبني مدنًا تُشبهنا، تُحاور ذاكرتنا، وتُراعي هشاشتنا، وتُعانق اختلافاتنا''. وربما قد حان الوقت لنسأل أنفسنا: أي مدينة نريد أن نعيش فيها؟ مدينة تطردنا، أم مدينة تحتوينا؟

أمل الهذيلي