languageFrançais

الطابونة أو الجوع: 'وفّروا لنا السّميد حتّى نجد رغيف يومنا...'

This browser does not support the video element.

"لم نطالبهم بشيء رغم خصاصتنا.. لكنّهم قطعوا عنّا السّميد، وأحالونا على شبه بطالة قسريّة.. وفرّوا لنا السّميد حتّى نجد رغيف يومنا، أرجوكم...". كلمات نطقت بها عفاف، 35 سنة، عاملة في صناعة الخبز المنزليّ (طابونة، كِسرة، ملاوي...)، وهي تداعب، في رفق، بأصابعها النّحيفة، ما تبقّى من عجين، فوق طاولة جمعتها مع ثلاث زميلات لها، في مهنة كانت تزدهر في شهر رمضان في العادة.

ففي ولاية القصرين، كانت محلّات  الطّابونة، والكِسرة، والملاوي، وغيرها، تحتوي 30% من سوق الخبز وفق ما أكّدته غرفة المخابز بالقصرين لموزاييك. لكن غياب السّميد في الأشهر الماضية أثّر كثيراً على هذه المهنة، فأقفلت عشرات المحلّات أبوابها، وأحيل عدد من عمّالها على البطالة، وغابت عنها الطّابونة مع السّميد والزّيت والفارينة، ولم يبقَ من محلّاتها إلاّ ما ندر، بعد أن كانت قد غزت كلّ الأحياء الشعبيّة والفاخرة في فترة غير بعيدة.

إن لم أشتغل..ستجوع عائلتي

تقول عفاف بصوت حزين، متقطّع، كأنّه يبحث عن المعنى، وهي تحرّك كرات العجين في لين، في كلّ الاتّجهات الممكنة، بكلتا يديها الهزيلتين، قبل إداخلها الفرن "إن لم أشتغل في هذا المحلّ ستجوع عائلتي... أنا مطلّقة، زوجي الأسبق في السّجن ولا يدفع نفقة لإبني وإبنتي. وضعنا دقيق جدّاً، مع غياب السّميد، وإمكانيّة إحالتي على البيت بعد غلق مكان شغلي..."

حلقات العمل، رغم قلّة موادّه الأوليّة، مسترسلة، في مستودع بيع الخبز المنزليّ الواقع في حي الزّهور من ولاية القصرين. فريق من النّسوة يطحن الدّقيق بعناية، وفريق يحوّله لعجين، وآخر يضعه في أفران مختلفة...

وبوجه شاحب كأنّه الفناء، وبعينين ذابلتين غرقتا في بحر الخصاصة، وبجسد هزيل أكلت منه سنون الشّقاء الكثير ما التهمت، تتحدّث عائشة(51 سنة) عن عملها رفقة عفاف وبقيّة رفيقاتها. وتصف معاناتها اليوميّة قبل وأثناء وبعد أزمة السّميد، خصوصاً في صيف القصرين الملتهب الّذي ترفع من درجات توهّجه المميت أفران عملها، فتزيد على هشاشتها الماديّة والعائليّة والنفسيّة تعباً وشقاءً.

عائشة هي العائلة الوحيدة لخمسة أبناء، لا تنال من عملها أكثر من 20 ديناراً يوميّاً، في أفضل الأحوال، إذا توفّر السّميد. وتغرق في هموم إضافيّة إذا أقفل شغلها سبل العيش أمامها.

تتحدّث باكية"نحن مهدّدون بالجوع، كما لم نُهدّد من قبل؛ إذا لم يعد العمل إلى نسقه العاديّ. أنا وزميلاتي لا نسعى إلى الرفاهيّة. فنحن لا نبحث إلاّ عن الرّغيف."

تدخل أنواع كثيرة من الخبز المنزليّ الّذي ساهمت عفاف وعائشة في إعداده غرف النّار، تسحبه مريم من الأفران بخبرة السّنين، وتعرضه للبيع لروّاد المحلّ.

الرزق بيد ربي..

مريم، 65 سنة، هي صاحبة مستودع الخبز، تشغّل معها 8 سيّدات وتوفّر عملاً عرضيّاً لمعاونتين. بعد الأزمة لم تعد تبحث عن ربح بسيط كان يعيلها سابقاً، فكلّ ما يعنيها الآن هو ألاّ تغلق أبواب محلّها في وجه عاملاتها. وهي تعرف كلّ ما يتعلّق بظروفهنّ العصيبة، وما سيلمّ بهنّ من دُون إن تعطلّن عن العمل والإنتاج.

تتنقّل مريم متثاقلة بين أركان المحلّ، تراقب بحرص مراحل الإنتاج من بداياته إلى حدود توفير طلبات الحرفاء. وتتحدّث بمرارة عن ما تبذله من جهد وتنقّلات بين معتمديّات عديدة مؤخّراً، من أجل تحصيل  20 كلغ من مادّة السّميد اللّازمة للعمل.

وتقول "لقد قرّرت مواصلة العمل بداية شهر رمضان، رغم موجات غلق محلّات الخبز المنزليّ، بسبب غياب السّميد. ما يهمّني الآن هو وضع العاملات. لم تقدّم لهنّ الدّولة شيئاً في كلّ أزماتهنّ، ومن العيب أن أقفل أمامهن أبواب رزقهن. كلّفني ذلك ما كلّفني..."

ودعت لتوفير ضروريّات العمل من موادّ أوليّة لمحلّها والحياة لعاملاتها، في حي شعبيّ تنفقن منه على 8 عائلات محدودة الدّخل، على الأقلّ. 

تواصل مريم جولاتها داخل مستودعها، كميّة السّميد المتوفّر غير كافية لعمل اليوم الموالي. هي مجبرة على طلب عدم قدوم عاملة  للعمل، غداً. وأمام دموع رفض العاملة الّتي تخفي أوجاعاً مختلفة أخرى. تتراجع عن إعفائها من الشّغل، ليوم الغد. تقول بصوت الرّحمة والتّضامن: "تَخْدْمِي غدوة... الرّزق بيد ربّي..."

برهان اليحياوي.