النساء في معركة الاستقلال: وجوه مغيبة وحكايات تستحق أن تُروى
لطالما كانت المرأة التونسية ركيزة صامتة في تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الفرنسي، لكنها لم تحظَ بالاهتمام الذي تستحقه في كتب التاريخ والمناهج الدراسية. في حوارها في برنامج ''واحد من الناس'' مع شاكر بسباس، سلّطت فاطمة شلفوح، الأستاذة المساعدة في التاريخ المعاصر، الضوء على هذه المساهمات النسائية الملحمية، التي كانت حاسمة في نجاح النضال من دون أن تظهر دائمًا على واجهة المشهد الذي تزاحمت فيه وجوه رجالية..
العمود الفقري للمقاومة..مؤنّث !
شددت الأستاذة فاطمة شلفوح، على أن مشاركة النساء التونسيات في المقاومة كانت منذ بدايات الاحتلال في عام 1881، إذ انخرطت نساء القبائل التونسية في مقاومة استعمارية عفوية، متغلغلة في نسيج النضال الشعبي. لم تكن مشاركتهن مجرد حضور شكلي، بل كانت تترجم بأفعال ملموسة: توفير الطعام والدواء للمقاومين، نقل الذخيرة والأسلحة، وتحمّل مخاطر التنقل بين مناطق الخطر من أجل نقل الرسائل والتوجيهات... "هذه الأدوار اللوجستية كانت بمثابة العمود الفقري لعمل المقاومة، ولولاها لما استطاعت الحركة الوطنية أن تستمر أو تحقق أهدافها" تؤكد ضيفتنا.
في المدن، تبلورت هذه المشاركة مع ظهور الأحزاب السياسية وتنظيمات نسائية مثل الاتحاد النسائي الإسلامي الذي قادته بشيرة بن مراد في العشرينيات والثلاثينيات، حيث أخذت النساء مكانًا أكثر تنظيمًا في العمل الوطني. لكن في القرى والبادية، كانت المرأة التونسية أكثر تماسًا مع واقع النضال المسلح، خاصة في الجنوب، حيث شاركت في الدعم المباشر لمقاتلي "الفلاقة"، وبلغ الأمر ببعضهن إلى تحمّل الأسر والسجن والنفي في معسكرات الصحراء.
جهود البحث والتوثيق: تصحيح المسار وإنصاف المرأة
كانت قصص النساء المناضلات في تونس حافلة بالشجاعة والتضحية، وإن بقيت في الظل لعقود طويلة. فقد شاركت نساء من مختلف الجهات، من الشمال إلى الجنوب، في المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، ليس فقط من خلال الدعم اللوجستي، بل أحيانًا بالمواجهة المباشرة. في الجنوب التونسي، مثلًا، شاركت نساء في انتفاضة "أولاد بابا" و"أولاد درنة" سنة 1915، حيث سقطت بعضهن شهيدات في ساحة المعركة.
كما كانت بعض النساء يخفين الأسلحة في بيوتهن، أو ينقلن التعليمات والأسلحة في سرية تامة، مستغلات ضعف الرقابة عليهن. وقد روت بعض العائلات أن جداتهن نقلن الذخيرة فوق الدواب، أو أسعفن الجرحى في منازلهن خلال مظاهرات 1938. ومع أن هذه القصص لم تُوثَّق كما ينبغي في السرد الرسمي، إلا أنها بقيت حية في الذاكرة الشفوية، تشهد على أن المرأة التونسية لم تكن على هامش التاريخ، بل في صميم النضال من أجل الحرية.
من المؤلم أن نقرّ بأن بعض النساء التونسيات المناضلات قد تعرّضن أثناء فترة الاستعمار الفرنسي لأبشع أشكال الانتهاكات، بما في ذلك الاغتصاب، كسلاح قمع سياسي يُمارس ضدهن لترهيبهن وكسر إرادتهن، أو لمعاقبة رجال المقاومة من خلال أجساد النساء.
انتهاكات وقمع واغتصاب..
في شهادات نادرة جمعتها الأستاذة فاطمة شلفوح وزميلاتها في سياق إعداد كتاب "مناضلات تونسيات"، تُذكر حادثة وقعت في الجنوب التونسي سنة 1915، حيث تعرّضت نساء للمطاردة والاعتقال، وبعضهن تم اغتصابهن على يد قوات الاحتلال الفرنسي أثناء عمليات التمشيط القمعية التي استهدفت عائلات المقاومين. لم يتم توثيق أسماء محددة في الوثائق الرسمية، غير أن الذاكرة الشفوية التي نقلها أحفاد هؤلاء النساء تحكي عن نساء اغتُصبن ثم أُجبرن على الصمت، حفاظًا على "شرف العائلة" ..
في محطة تاريخية أخرى، سنة 1952 تحديدا، 1952، ارتكب الجيش الفرنسي مجزرة مروعة في بلدة تازركة، راح ضحيتها نحو 200 شخص في ليلة واحدة. ورغم أن البلدة كانت معزولة ولم تشهد احتجاجات أو وجودًا فرنسيًا دائمًا، إلا أن القوات الفرنسية اقتحمتها فجأة، وارتكبت فظائع بحق السكان المدنيين، بما في ذلك النساء والأطفال. وبحسب ضيفتنا، فإن النساء في تازركة تعرضن لانتهاكات جسيمة، حيث تم اغتصاب بعضهن، ودهس الأطفال، وقتل المدنيين بوحشية.. بعدها، قرر الشباب الوطني الزواج من المُغتصبات في تلك الواقعة في فعل تضامني معهن كضحايا لمستعمر مستبدّ..
ومن الحالات التي وردت في الأبحاث، امرأة من جهة قفصة اعتُقلت بسبب صلتها بزوجها المنتمي للمقاومة المسلحة (الفلّاقة)، وتعرضت أثناء التحقيق إلى تعذيب شديد ثم إلى اعتداء جنسي داخل السجن. أُفرج عنها لاحقًا دون محاكمة، لكنها لم تنبس ببنت شفة لبقية حياتها، وعاشت في عزلة شبه تامة. لم يُروَ ما حدث لها إلا بعد وفاتها، حين أفصح ابنها عن بعض تفاصيل القصة التي سمعها منها في لحظة ألم.
تصحيح التاريخ !
تُبرز هذه الشهادات كيف استُخدمت أجساد النساء كساحة حرب صامتة، وكيف طُمرت قصصهن تحت طبقات من الخوف والعار والتجاهل الرسمي. وما تقوم به اليوم باحثات مثل فاطمة شلفوح هو محاولة لاسترداد هذه الذاكرة المغتصبة أيضًا، وإعادة الاعتبار لنساء كُنّ شهيدات في الجسد والكرامة، لا يقلُّ نضالهن قسوة عن من حملوا السلاح.
هذه المساهمات لم تحظَ بالتوثيق الكافي، فغالبًا ما يغيب ذكرها أو تُختزل في أدوار تقليدية تقيد المرأة في إطار الأعمال المنزلية وتحصر دورها في الدعم السلبي. وهو تهميش له أسباب عدة، "منها صعوبة الوصول إلى الوثائق الرسمية، التي قلّما تحفظت على أسماء النساء أو تفاصيل أفعالهن". كما أن المجتمع آنذاك لم يكن يسمح للمرأة بالنضال علنًا، خاصة أن الاعتقال أو السجن كان يحمل وصمة في أوساط العائلة، مما دفع الكثيرات إلى الصمت. غير أن الذاكرة الشفوية الشعبية حافظت على هذه القصص، حيث تتناقلها العائلات من جيل إلى جيل..
اليوم، هناك جهود متجددة تقوم بها الباحثات والمؤرخات، ومن بينهن الأستاذة فاطمة شلفوح، لتوثيق هذه المساهمات وتضمينها في الذاكرة الوطنية الرسمية. مشاريع مثل كتاب "مناضلات تونسيّات: مسارات استثنائية في تاريخ الحركة الوطنية (1881- 1961)" الذي كان بإشراف من ضيفتنا، تبرز صوت النساء المناضلات وتعيد الاعتبار لدورهن، بهدف تصحيح النظرة الذكورية الضيقة، وإظهار أن التحرير لم يكن عمل رجال فقط، بل كان ثمرة تضافر جهود الجميع، رجالاً ونساءً، في مسيرة طويلة من التضحية والصمود.
*أمل الهذيلي
شاهد الحوار كاملا.. وبإمكانك الإطّلاع على بقية قصص وحكايا المناضلات التونسيات