قصة شابة تونسية غيّرت الدرّاجة الهوائية حياتها تماما!
''أذكر جيّدا شعوري وأنا على دراجتي وحيدة في قلب المجهول.. في شط الجريد.. أينما رميت عينيك لم تر غير بعض السراب والفراغ الكبير.. كما أذكر رجلا تفاجأ وهو يلمحني أتجوّل على دراجتي في إحدى رحلاتي حاملة علم تونس، وعلمتُ أنه كان يعتزم ''الحرقة'' وعدل عن قراره..ربما بسببي''.
نادرة الرياحي، شابة تونسية خرّيجة الجامعة ودرّست اللغة االفرنسية لسنوات، إلى أن قررت يوما تغيير مسار حياتها بالكامل، وكانت الدراجة الهوائية سبب ذلك. تحدثنا نادرة خلال استضافتها في برنامج ''واحد من الناس'' عن تجربتها الإنسانية المتفرّدة وتقول إنها كانت تعيش حياة عادية، تعمل كمدرّسة في معاهد ومدارس خاصة، وتعيش بأجرها شبه القار.. إلى أن قررت يوما تعلّم ركوب الدراجة الهوائية، فاقتنت واحدة بثمن زهيد وتعلّمت ركوبها لوحدها.. "في البداية سقطت كثيرا وأصبت إصابات متفاوتة، إحداها بقيت آثارها واضحة على وجهي، تذكّرني بصعوبة البدايات" تقول نادرة مبتسمة.
"بعدها صارت الدراجة رفيقتي الوفيّة، أتنقّل بها إلى العمل وإلى كل مكان أذهب إليه، وجدتني أدّخر المال ومصاريف ''التاكسي''، وأشعر بتحسّن في صحتني وتنفّسي''. وعن ردة فعل المجتمع بعد هذا القرار تقول نادرة ''رأيت الاستغراب في البداية في عيون كل من لمحني، خاصة تلامذتي وزملائي.. في الاعتقاد السائد، يظن الأغلبية أنني أستاذة لذا وجب أن أتنقّل بسيارة !"
تركت التعليم وفتحت مشروعي الصغير
ظلّت نادرة على هذه الحال لسنوات غير قليلة، تتنقل بدراجتها الهوائية في العاصمة تونس، وتواجه بعض الانتقادات والملاحظات السمجة بلا مبالاة غالبا.. إلى أن اكتشفت حبّا جديدا ''صناعة الحلويات المنزلية''. عن هذه المرحلة تحدثنا ضيفتنا ''بدأت الأمر في البداية كهواية أحبها، ثم اتخذتُ قراري الجريء: تركت التعليم وفتحت مشروعي الصغير الذي يتمثّل في صناعة الحلويات في منزلي وتوصيلها لزبائني بدراجتي.. وها أنا أواصل في هذا اليوم رغم كل الصعوبات والتحديات.. ولستُ نادمة على قراري''.
تعتبر نادرة أن التعليم مهنة راقية جدا وشاقة جدا أيضا، وتعتبر أنها لم تُخلق للجميع. لذلك قررت تركها والسير في طريق أحلامها التي لم تتوقف. فنادرة بعد هذا القرار، تجرّأت على القيام برحلات طويلة بين مختلف المدن التونسية، من شمالها إلى جنوبها.. على دراجتها الهوائية.. وحدها !
وبسؤالها السؤال الذي سرعان ما يتبادر إلى الذهن: ''ألم تخافي؟''، أجابت ضيفتنا ''بلا.. خفت في مرات كثيرة، كنت وحيدة في طرق غير آمنة ولا أعرفها.. وثمة مرات تعرضت فيها إلى الإزعاج أو التحرش اللفظي.. لكني تعلمت كيف أتعامل مع وضعيات مماثلة وأتغلّب على هذا الخوف..''
وحيدة في شط الجريد.. التوهان في الفراغ الكبير
وعن أكثر اللحظات أو المواقف التي علقت بذاكرتها من رحلاتها الثرية، تحدثنا نادرة عن رحلتها إلى الجنوب التونسي وشط الجريد، هناك قررت نادرة التخلّي عن أصدقائها ومرافقيها وطلبت منهم أن تُكمل المائة كيلومتر بمفردها.. كانت تريد أن تعيش التجربة التي حدثها عنها الفنان الراحل ''ياسر الجرادي''. وفعلا كان لها ذلك، سارت نادرة في رحاب الفراغ الكبير الذي لفّها وشعرت بمزيج مختلط وقويّ من المشاعر والأحاسيس.. إلى أن وصلت الحافلة التي تقبع في قلب الصحراء.. كانت تلك طريقتها في إهداء رحلتها لياسر..
رحلات نادرة على الدراجة جعلتها أكثر اتصالا بالأرض والطبيعة، عرفت عن كثب قيمة الأشجار المظللة للطريق، وقيمة الهواء النقي، وصارت أحرص على احترام الطبيعة وحماية البيئة. تقول نادرة ''كنت أكتفي سابقا بعدم إلقاء القمامة في الطبيعة.. لكني بعد رحلاتي طوّرت وعيي البيئي وصرت أكثر التزاما بيئيا واحتراما للطبيعة، وكوّنت علاقات مع جمعيات تعمل في هذا المجال..''
رآها تجوب البلاد على دراجتها.. فتراجع عن ''الحرقة'' !
كما حدّثتنا عن رجل لاقته في إحدى رحلاتها وهي تجوب مدينة سوسة على دراجتها الهوائية البسيطة، حاملة العلم التونسي، اندهش الرجل من المشهد واستوقفها معبّرا لها عن استغرابه وتفاجئه من أن شابة تجوب البلاد على دراجة، وأسرّ لها أنه ينوي ''الحرقة'' ليأسه من الأوضاع الوطنية وأن رؤيتها جعلته يراجع أفكاره. تبادلا الحديث لدقائق وبقيا على اتصال، وعلمت ضيفتنا لاحقا أنه عدل عن قرار الهجرة ووجد عملا، كما اقتنى دراجة صار يتنقّل بها في المدينة ! وتعلّق نادرة ''لا أدري هل كنت أنا السبب أم لا، لكني سعيدة بتأثيري الذي أراه على وسائل التواصل الاجتماعي أو على أرض الواقع''.
تابعت نادرة في حوارها ''رحلاتي على الدراجة أهدتني الكثير: اتصال حقيقيّ مع الناس بعيدا على العالم الافتراضي الزائف، واكتشاف لحفاوة وبساطة كثير من التونسيين. كلّما ذهبت مكانا أخجلني الناس بكرمهم وفتح أبوابهم لي.. تقاسمت معهم الأكل والفراش والتجارب والحكايات.. غيّر ذلك شخصيتي كثيرا..صرتُ أكثر صبرا، وأكثر قدرة على التحمّل، وأكثر رضا..''
''درّاجتي اليوم أسلوب حياة وليست مجرّد وسيلة نقل، تعلمت كيف أتخلّص من الثقافة الاستهلاكية، وإيصال الحلويات إلى زبائني مهما كانت المسافة طويلة لا أعتبره تعبا أو مجهودا، بل هو بالنسبة لي متعة خالصة..''.
أمل الهذيلي