languageFrançais

''ريش'' يقتحم أسوار سجن برج الرومي..

جمهور سينمائي عادي، في قاعة سينما متواضعة، شاهد فيلما مصريا أثار جدلا في ''أم الدنيا''، ولكنه لم يُثره هنا، حيث صفّق له الجمهور وناقشه بلا انفعال ولا تحامل ولا انبهار أيضا.. هنا لا تلفاز ولا صحف ولا وسائل تواصل، وهنا اكتشف جمهور سجن برج الرومي في بنزرت فيلم ''ريش'' بعيدا عن أي انطباع أو أحكام مسبقة. 


''المخرج نجح في أن ينقل لنا حلما.. هذا الفيلم حلمٌ ولا يمكن أن ننقده خارج هذا، خمس مشاهد تفصلها فواصل مظلمة.. لقد عددتها.. الموسيقى الفرحة في مشاهد حزينة وحتى مأساوية..تلك تقنية ذات رسالة..نحن أمام مخرج يعرف  أدوات السينما واللغة السينمائية العالية''.

هذا بعض من تقييم طويل لأحد مشاهدي فيلم ''ريش''، وهو ليس بناقد سينمائي ولا صحفي مختصّ، هو شاب شغوف بالسينما وبالمسرح والفنون عموما، جعلت منه الأقدار والمِحن وخطأ قاتل، نزيلا عدد XX داخل سجن برج الرومي ببنزرت. هناك أقيمت قاعة عرض منذ سنة 2015، وفيها اختار عدد من النزلاء أن يكسروا رتابة أيامهم بالفنون والإبداع. 


السبت 6 نوفمبر 2021، اختتمت أيام مهرجان قرطاج السينمائية في السجون، تظاهرة ثقافية اخترقت جدران السجون التونسية في مختلف الجهات منذ سبع سنوات، ونجحت في استقطاب عدد مهم من النزلاء الذين واكبوا العروض واهتموا لاحقا بالنوادي والأنشطة الثقافية، لتصبح السجون منتجة للعروض المسرحية وحتى الأفلام القصيرة.. 


الصورة ليست وردية جدا داخل برج الرومي.. فلئن حاول مستقبلونا الاحتفاء بنا في هذا السجن الذي شهدت أسواره أحداث دامية آخرها أيام الثورة في 2011 حيث تم إحراق جزء من العنابر وسقط في تلك الأحداث عدد من القتلى بالرصاص.. ولئن زٌيّنت جدرانه -في استقبالنا وممثلي المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب صاحبة المبادرة- وتم عرض رسومات وانتاجات النزلاء.. فإن الكآبة لم تنقشع من السماء الرمادية الماكثة فوق هذا المكان. 


النزلاء الذين واكبوا فيلم ''ريش'' هم كما درجت العادة في مثل هذه التظاهرات، أختيروا لأنهم ''اتّسموا بحسن السلوك والانضباط والمشاركة في النوادي الثقافية''. عددهم لم يتجاوز الخمسين، فيما يضم السجن أكثر من ألف سجين، البقية شاهدوا الفيلم من داخل غرفهم عبر التلفاز. وقد بلغ عدد النزلاء الذين شاهدوا الأفلام في هذه الدورة من التظاهرة السينمائية، 14000 في مختلف السجون التونسية، أي ما يتجاوز نصف النزلاء على المستوى الوطني.
 


تم إخراجنا من ''قاعة العرض'' حين تم إدخال ''الجمهور'' إليها، طلب منا المسؤولون ''بلطف'' أن نغادرها حتى يدخلوا ويتم تنظيمهم في صفوف متراصة على يسار القاعة، ونحن وبقية ممثلي وزارة العدل ووزارة الثقافة ومنظمة مناهضة التعذيب جلسنا يمينا، تفصلنا عنهم أمتار قليلة. بدا لي الأمر مؤلما، لأننا في النهاية ومهما ادّعينا أننا جمهور متجانس نشاهد معا عرضا سينمائيا سنناقشه جميعا بلا تفرقة، فإننا في النهاية لسنا كذلك. كنت أسترق إليهم النظر منذ جلست، أعينهم فوق الكمامات -التي يبدو أنهم ارتدوها اختباء لا وقاية- كانت فضولية وبعضها أعين حزينة فعلا. في النهاية كل هذا البهرج والاحتفاء المتكلّف بهم، والشعارات والكلمات الرنانة.. سوف تنتهي، وهم سيعودون إلى ''الشمبري'' ليقضوا بقية عقوبتهم التي قد تطول، وقد لا تنتهي.

والفيلم الذي شاهدناه، والذي صادف أن تُوّج بالتانيت الذهبي في اختتام مهرجان أيام قرطاج السينمائية، يحكي قصة عائلة مصرية فقيرة، تحول في اللحظة الدرامية الكبرى الزوج المتسلط إلى دجاجة، في لعبة ساحر محتال، لتبدأ معاناة البطلة.. النزيل عدد xx عاد في النقاش على دلالة الدجاجة في الموروث العربي وحتى التونسي، وقال ''نحن نستعمل جملا وأمثالا كثيرة للدجاج، حمل الجماعة ريش، عيش وربي الريش، ستنى يا دجاجة.. أظن أن اختيار تحوّل رجل مثله إلى دجاجة فكرة طريفة وذات دلالات عدة''. ولم يفت نزلاء آخرين، أن يعودوا على وضعية المرأة المصرية والعربية، فقال أحدهم ''الفيلم مؤلم.. ذلك واقع شريحة كبرى من النساء العربيات وحتى في تونس.. الفقر والقهر والحرمان والاستغلال..''.

تعمل إدارة سجن برج الرومي على إتمام مشروع السجن النموذجي، على أنقاض العنابر التي احترقت أيام الثورة، ليصبح سجنا يعمل كل نزلائه في ورشات كبرى لانتاج النسيج وغيره. وقد أكد المختص النفسي المهتم بنزلاء السجن لموزاييك، أن ما يقارب 15 بالمائة من نزلاء برج الرومي ينشطون اليوم في نوادي المسرح والسينما والموسيقى.. وشاركوا في مهرجانات ثقافية كبرى.

وشدد المتحدث على أن التجربة أكدت أن المتكونين في هذه النوادي أثبتوا تحسّنا في السلوك والنفسية، وأن من غادر السجن منهم لم يعد إليه، خلافا لغيره من النزلاء الذين سارعوا بالعودة إلى السجن إثر انتهاء عقوبتهم بقليل.. ولئن يبقى واقع السجون في تونس بعيدا عن ''النموذجية'' والمثالية، فإن تظاهرات مماثلة تُعدّ محاولات هامة للوصول إلى سجون تُحترم فيها الكرامة البشرية قبل كل شيء.

أمل الهذيلي