سوداني وجذب: رحلة بين إيقاعات البوب وروح التصوّف في مهرجان الحمامات
يواصل مهرجان الحمامات الدولي في دورته التاسعة و الخمسين نسج لياليه الفنية بعرض مزدوج، جمع مساء أمس بين الفنانة التونسية سوداني والثنائي الموسيقي التونسي "جذب"، في رحلة موسيقية تجاوزت المألوف، لتبحث في الذات، الذاكرة، والهوية.
بالرّغم من الحضور الجماهيري المتواضع إلاّ أنّ الحاضرين تعايشوا في أجواء تباينت بين الحميمية، التأمل، والإيقاع الصوفي الإلكتروني.
سوداني: علاقات إنسانية تجسّدت في "هريسة بوب"
افتتحت الفنانة الشابة شروق "سوداني" السهرة بصعودها على ركح الحمامات، حيث قدّمت عرضًا شخصيًا محمّلا بالرسائل، تمازجت فيه العاطفة الصادقة مع النمط الخاص بها في الغناء .
في لحظة رمزية وعاطفية،سردت سوداني قصتها مع مهرجان الحمامات الدولي حيث أنها عادت إلى نفس المكان الذي كانت فيه قبل سنوات متربّصة ضمن الفريق التقني للصوت لتسأل نفسها: "شنوا نحب نعمل؟" ومن هناك بدأت رحلتها مع التلحين والكتابة، رفقة مجموعة كاملة. لتعود إليه بكلّ فخر قائلة: "قلت الحمامات باش نرجعلوا بالموسيقى متاعي."
غنّت سوداني مجموعة من أغانيها الخاصة مثل "في مهبّ الريح"، "مذابيا"،، "غرادة"، و"هدرة فيك". وقدّمت "غرادة" بشكل مؤثر مرفوقًا بموال يعبّر عن الحنين والانتماء.
في تصريحها لموزاييك أف أم، وصفت سوداني موسيقاها بأنها "هريسة بوب"، حيث تمزج بين البوب والإيقاعات التونسية، في عمل متكامل من الكلمات إلى الديكور. وأعلنت عن أغانٍ جديدة مثل "صلصال" و"أيا مغرما" التي ستصدر في الموسم الشتوي ، من ألحان تارزي وإنتاج عصام عزوزي.
وأكّدت أن صعودها على ركح الحمامات لم يكن صدفة، بل ثمرة عمل دام أربع سنوات من التلحين والكتابة والإنتاج، مشيرةً إلى أن هذا العرض ليس إلا بداية مسيرتها الفعلية، وأن القادم يحمل المزيد، وربما عودة مرتقبة إلى نفس الركح في العام القادم.
في ظل الفرحة التي كانت تعيش على وقعها سوداني إلاّ أنها لم تخفِ تأثرها وهي تتوجه برسالة لوالدها المرحوم: "نحب نقول لبابا: إن شاء الله يكون فرحان بيا، ونتصوّرو فرحان... نعرف الي فرحان بيّا خاطرني نتبع في أحلامي، كيف ما كان ديما يحبّ."
"جذب": موسيقى بين الصوفي والالكتروني
بعد عرض سوداني، صعد الثنائي جذب، المكوّن من مريم الحمروني ومحمد البرصاوي، إلى الركح في عرض روحاني جمع بين موسيقى إلكترونية معاصرة، وإرث صوفي عريق، وسط أضواء خافتة وروائح البخور، ليخلقوا تجربة حسّية متكاملة تخاطب الروح والوعي.
عزفا من ألبومهما "ويليا"، الذي سيُطلق قريبا على جميع المنصات الرقمية. وقد تميز العرض بإيقاعات الطبل المتناغمة مع النبض الالكتروني، بينما رافقت الجمهور ترنيمات بأصوات غامضة غير مفهومة في ظاهرها، لكنها مست روح الحضور الذي تفاعل بالتصفيق والإنصات والزغاريد.
و في حديثهم عن رمزية الإسم"جذب"، قالت مريم إن الاسم مستمدّ من تجربتهم الجسدية والروحية، كما في طقوس العيساوية: "نجذبوا، نوصلوا لعوالم أخرى." وأضاف البرصاوي: "اللقاء بيناتنا كان جذب، حاجة ما خططناش ليها، جات بطبيعتها، والموسيقى زادة تولدت بالصدفة."
أما بخصوص الانتقادات القائلة أنّ إعادة توزيع المدائح والأغاني التراثية تشويه و تحريف مثل "نمدح الأقطاب" و"يا بلحسن يا شادلي"، فكان ردّهم واضحًا:
"هذا تراثنا الكل، ومن حق الجيل الجديد يتفاعل معاه، يوزعو بطريقته ويعكس نظرته للهوية والروح الصوفية."
واعتبر محمد أن إعادة الإحياء ليست تحريفًا بل تأويلاً فنيًا: "أنا تونسي، تولدت في تونس، التراث هذا متاعي زادة، وماننجمش نبدع كان إذا خرجته كيف ما نحسّه ."
في المقابل، ركزت مريم على حضور العيساوية المهداوية في العرض، خاصة في المقطوعة "خمّر يا الخمّار"، معتبرة أن هذه الطقوس حاضرة في روح العمل.
كما تحدثوا عن مقطوعة "نكبة" التي مزجت بين صوت أم فلسطينية وطفلها الأسير التي جاءت استحضارًا لمعاناة الشعب الفلسطيني وخاصة قصف المستشفيات في غزة خلال نوفمبر 2023، ما أدى لاستشهاد الآلاف. حيث عبّر الثنائي عن ألمهما العميق: "كانت تفرهيدة خرجنا بيها البكية و الوجيعة الي فينا ".
بين البوب والتصوّف: ركح الحمامات يحتفي بالمغاير
رغم تباين الأساليب والأنماط، فإن ليلة أمس على ركح مهرجان الحمامات الدولي جمعت بين رؤيتين مختلفتين للفن: الأولى، شخصية حداثية تستلهم أغانيها من كلّ ما هو تونسي و شرقي و غربي و العلاقات الإنسانية والشغف، جسدتها سوداني؛ والثانية، طقسية روحية غامرة تبحث في الذاكرة الجمعية البشرية قدّمها ثنائي جذب.