languageFrançais

ورحلت سيدة الديمقراطية..

رحلت فجأة، رغم علم الجميع بمرضها، وغادرت الحياة في هدوء داخل بيتها الصغير بالضاحية الجنوبية التي ترعرعت بها، فجاء خبر موتها فاجعا ككل أخبار الموت، أو أكثر قليلا.

رحلت الشقراء الشرسة، وآخر صورة عالقة عنها،  تقف في شموخها المعتاد وطلاقتها وفصاحتها التي لم تتلعثم، تلقى خطاب مغادرتها الأمانة العامة للحزب الجمهوري دون أن تغادر الحزب الذي وضعت حجر تأسيسه، لم يغيّر منها المرض ولا بدا عليها الوهن، وكانت كلماتها ' أعتزل السياسة عندما أعتزل الحياة.. وسأغادر الحياة السياسية عندما أغادر الحياة..' ووفت بوعدها.


لم يعتد التونسيون صورة غير نمطية لإمرأة سياسية مثل مية الجريبي، لم يألفوا وجها أنثويا طفوليا وجسدا نحيلا وملامح غير حادة وصوتا رقيقا، يقارع نظاما في أوجّ قوته، ويقود حزبا ''رجاليا'' معارضا كما الحزب الديمقراطي التقدمي ويدخل بلا تردد معارك خاسرة فيربحها،  ولا يأنف التشويه ولا التضييق والهرسلة والتجويع... من أين أتت ميّة بكل قوتها تلك؟ لعلّها وحدها التي تعلم. 

 


لم تعرف مية حياة نسائية عادية بتاتا، دخلت غمار السياسة باكرا طالبة في كلية العلوم بصفاقس، ولم تغادرها حتى بعد أن اقتحم المرض حياتها. دخلت السياسة بطم طميمها ولم يمسسها منها ''وسخ'' ولا ''قذارة'' ولا ''متاجرة''، بل شُهد لها بنضافة يد لا غبار عليها، وبمواقف طوباوية انتقدها فيها رفاقها قبل خصومها، ولم تُفسّر بغير مبدئيتها التي لم تقبل فيها جدالا ولا تجزيئا. حملت طول نفس الأنبياء، وعاشت ولادة التجارب السياسية الواحدة تلو الأخرى، ولم تلق راياتها رغم قنوط من قدموا بعدها، وكانت دائما من المؤسسين القياديين، كإندفاعها دائما في الصفوف الأمامية لكل عراك: إضراب جوع وحشي، مسيرات، توزيع صحيفة الموقف الممنوعة أمام أعوان البوليس، الدفاع الشرس على الحريات بلا حساب، الاعتصامات والمظاهرات والصوت الرقيق الذي تتحوّل نبرته في ساحات الوغى.. 


غابت مية مؤخرا عن الساحة الإعلامية بُعيد تجربتها الحافلة صلب المجلس الوطني التأسيسي، فافتقدتها الساحة وسأل عنها البسطاء والمسيّسون، ليسري خبر مرضها سريان النار في الهشيم، حتى طالتها إشاعات الاعتزال والاستقالة.. لم تغيّر المرأة ''المغامرة'' عنادها وصلابتها، وخرجت في أحلك أيام مرضها مبتسمة هادئة تستقبل زوارها من كل المشارب، مفنّدة ما قيل عن انسحابها من السياسة ومن الحزب الجمهوري، وأصرّت أنها تواصل بذلها وعطاءها لحزبها "ورفاق دمها" إلى آخر رمق، على حد تعبيرها.


"أن تُكرّمَ هذا كثير وهذه مسؤولية و هذه رسالة! رسالة رأيت فيها اعترافا لجيل بأكمله، جيل آمن بالقيم الجميلة، جيل من النساء و الرجال، لم يرضخوا أمام الظلم والاستبداد…
فتحية لكل جيلي الذي أهديه هذا التكريم، لصموده و إيمانه و مثابرته …
و لنكنً متضامنين متآزرين من أجل الحق و العدل و الكرامة و من أجل المواطنة الكاملة في هذه المرحلة التي نرى فيها حنينا إلى الماضي و ارتدادات إلى الوراء.."  

هذا ما كتبته مية يوم 23 مارس 2018 في رسالة شكر وجهتها لمركز البحوث و الدراسات و التوثيق و الإعلام حول المرأة، لعلّها شعرت أنها الوحيدة نالت شيء من الاعتراف بالجميل في وطن اعتاد أن لا يكرّم عظماءه إلا بعد رحيلهم، فعايشت في اليوم العالمي للمرأة شيء من المكانة التي تستحقها، قبل أن توارى الثرى.


حريّ بمية الجريبي أن تشيّع إلى مثواها الأخير تشييع الأبطال والشهداء والعظماء، إمرأة ''فتاة'' لم تنجب تونس لها شبيهة، وهبت عمرها وحياتها لوطن أفضل يسع كل الألوان والطوائف، ومنحت حلمها سنوات شبابها، وفارقتنا سريعا وقبل أن تقطف ثمار ما حلمت به،''تونس ديمقراطية تقدمية، تتسع للجميع''.
 

أمل الهذيلي