مرقْاز وسفافد تالة: موروث يأبى التخاذل والنّسيان..
يرتفع في بدايات كلّ صباح دخان متكاسل، ليرسم خطوطاً ودوائر، فوق مداخن بنايات مدينة تالة المميّزة في معمراها. فكلّ المعمار، تقريباً، في تلك الأزقّة تعود إلى الفترة الاستعماريّة، وما قبلها. وترتفع أعمدة الدّخان من أعلى الأسقف القرموديّة بلون الطّين، نحو سماء المدينة الغائم.
مشهد متكرّر تعيش على وقعه مدينة تالة، من ولاية القصرين، جيلاً بعد جيل، فمن العادات الغذائيّة أن يستقبل متساكنو المنطقة النّهار، بوجبات "المرقْاز" و"السّفافد" المشويّة، ولا يغيب عن ضيوف المدينة تناول هذه الأكلة الشعبيّة، في كلّ مرور لهم بها.
بين أعمدة النّار والدّخان، يقول شريف الزاهي، 40 سنة، أحد العاملين في مطعم شعبيّ منذ 25 سنة، إن محلّه هو أقدم محلاّت "المرقْاز"، وعمره يتجاوز الستّين سنة.
يشدّد على أنّ جودة الخدمات ونكهة "مرقْاز" تالة و"سفافدها"، قد منحت المنطقة شهرة، ووفّرت عملاً قارّاً لخمسة عائلات على الأقلّ، في محلّه.
غير بعيد عن محلّ شريف، يغوص باسط الزاهي، 35 سنة، في عمليّات شوي روتينيّة لمنتجات المطعم، الّذي يشتغل فيه، من "سفافد" و"مرقْاز"، فوقت الذّروة في هذا المهنة يتزامن مع ساعات الصّباح الأولى. يذكّر بأنّه قد تعلّم المهنة في المحلّ نفسه الّذي يشتغل فيه الشّريف، منذ 15 سنة، وهو ما حدث تقريباً مع كلّ "مطاعم المرقْاز" في المنطقة، فالمهنة قد انتقلت من جيل إلى جيل بهذه الطّريقة، عبر أقدم معلّمي "المرقْاز"، أحمد الوصيّف.
يتحدّث لموزاييك عن سرّ نكهة "المرقْاز" في تالة، ويذكّر بمحتوى الوجبة المتكوّنة من كبد الخروف وجزءًا من أحشائه وبهارات خاصّة به، قبل تجفيفها لثلاثة ساعات على الأقل، ثمّ شويها، وتقديمها، في أشهى حلّة للحرفاء.
الحرفاء، بدورهم، أكّدوا على أهميّة وجبة "المرقْاز" و"السّفافد" بتالة، كَتُراث لا ماديّ، حافظ على خصوصيّته على مرّ السّنون، محليّاً، رغم بعض العراقيل. وحقّق إشعاعاً، نسبيّاً، وطنيّاً وعالميّاً، وهو ما صرّح به فيصل هدّاوي، 49 سنة، لموزاييك.
من جانبه، يفتخر محمد بوعلي، 60 سنة، بما تنتجه مدينته الّتي باتت قبلة الزوّار من أجل "مرقْازها"، ويشدّد على أن عدد المحلاّت، وإن تقلّص في المنطقة الّتي كانت تحتوي مطاعم كثيرة متلاصقة تعيش من "المرقْاز"، فهذه المهنة لن تفنى بمرور الزّمن.
بدوره، يؤكّد معتمد تالة من ولاية القصرين جوهر شعباني، أنّ عدد محلاّت "المرقْاز" قد تقلّص إلى 9 محلاّت في سنة 2022، بقدرة تشغيليّة تقدّر ببضع العشرات من العمّال.
وقال إنّ الرّقابة الصحيّة على هذه المحلاّت تتكثّف بصفة دوريّة، لمراقبة جودة وسلامة المنتوج، من قبل مصالح الصحّة والبلديّة.
ودعا إلى ضرورة المحافظة على هذا الموروث، عبر تشجيع الشّباب، خصوصاً، على الاستثمار فيه، لفتح آفاق سياحيّة، داخليّة أو خارجيّة، قد تدعم قدرات المنطقة، اقتصاديّاً واجتماعيّاً.
في حدود السّاعة الواحدة بعد زوال كلّ يوم، تُقفل محلاّت "المرقْاز" أبوابها، وخلف تلك الأبواب يغوص عمّال آخرون في تنظيف أحشاء الخرفان، القادمة توّاً من مسلخ القصرين، ويقطّعونها إلى أجزاء صغيرة، بخبرة السّنين. يظيفون لها ما يليق بها من بهارات ومكوّنات، ويرصّفونها، فتخرج منها "سفافد" أو "مرقْاز"، ثمّ تترك حتّى تجفّ، ليملأ دخانها، صباحاً، سماء تالة.
حلقة يوميّة سرمديّة، توارثتها المدينة منذ ما يقارب قرناً من الزّمن، ولا يُعرف إلى الآن إن كان باعث هذه المهنة من دول الجوار أو من الغرب فترة الاستعمار، لكن الأهمّ أن هذه الأكلة الّتي لا تتجاوز فيها سعر الوجبة بضعة دنانير، قد حافظت على أسرارها ورونقها كاملة، وكأنّها رقعة عصيّة من مرتفعات تالة الجلموديّة، ترفض تدخّل الآلات الحديثة والتكنولوجيا فيها؛ فهي لا تصنع إلاّ بأيادي عمّالها، وهي أيضاً تشبه مدينتها، في شكل مجازيّ ما، تلك الرّقعة الّتي تأبى التخاذل والنّسيان.
برهان اليحياوي